0
الملك الناصر صلاح الدين الايوبى
هو الملك الناصر أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان مؤسِّس الدولة الأيوبية في مصر والشام، وهو فارس نبيل، وبطل شجاع، وقائد من أفضل مَنْ عَرَفتهم البشرية، وشهد بأخلاقه أعداؤُه من الصليبيين قبل أصدقائه وكاتِبُوا سيرته، إنه نموذج فذٌّ لشخصية عملاقة من صُنْعِ الإسلام، إنه البطل صلاح الدين الأيوبي محرِّر القدس من الصليبيين، وبطل معركة حطين.

نشأة صلاح الدين الأيوبي
وُلِدَ صلاح الدين الأيوبي في تَكْرِيت عام (532 هـ= 1138م) لعائلة كردية، وكان والده محافظًا لقلعة تَكريت من قِبَلِ بهروز، وكان عمُّه أسد الدين شيركوه أحدَ القادة العظام في جيش نور الدين محمود حاكم الموصل. ومن غريب ما وقع أن ولادة صلاح الدين يوسف ابن نجم الدين أيوب بن شاذي صادفت إجبار أبيه على الخروج من تَكريت، فتشاءم أبوه منه. فقال له أحدُ الحضور: «فما يُدريك أن يكون لهذا المولود مُلكًا عظيمًا له صيتٌ؟!».

هاجر نجم الدين أيوب بأُسرته من تَكْرِيت إلى الموصل، وكان نزوله على عماد الدين زنكي، فأكرمه، ونشأ الطفل صلاح الدين نشأة مباركة، درج فيها على العزِّ، وتربَّى فيها على الفروسية، وتدرَّب فيها على السلاح، ونما فيها على حُبِّ الجهاد، فقرأ القرآن الكريم، وحفظ الحديث الشريف، وتعلَّم من اللغة ما تعلَّم.

صلاح الدين وزيرا في مصر
كانت مصر قبل قُدوم صلاح الدين إليها مقرًّا للدولة الفاطمية، وكانت مصر في هذا الوقت نهبًا للثورات الداخلية بين الطوائف المختلفة؛ من مماليك أتراك وسودانيين ومغاربة، وكانت الأوضاع غير مستقرَّة بسبب الاضطراب الذي سبَّبَه توالي عدد كبير من الخلفاء الفاطميين في مدد قصيرة، تتحكَّم في قراراتهم سلسلة من الوزراء. فطمع الصليبيون في مصر، فلمَّا رأى القائد نور الدين محمود هذه الخلافات، وبدا له طمع ملك بيت المقدس الصليبي في احتلال مصر، أرسل نور الدين محمود من دمشق إلى مصر جيشًا بقيادة أسد الدين شيركوه، يُساعده ابن أخيه صلاح الدين، فلمَّا علم الصليبيون بقدوم أسد الدين شيركوه، تركوا مصر، ودخلها أسد الدين، ثم خلفه على وزارتها صلاح الدين.

حيكت المؤامرات من أرباب المصالح، وأصحاب المطامع، ولكن صلاح الدين تغلَّب عليها كما تغلَّب على الفتن الخارجية، وبدا لصلاح الدين ظهور الباطنية في مصر، فأسَّس مدرستين كبيرتين؛ هما: المدرسة الناصرية، والمدرسة الكاملية؛ حتى يُحَوِّل الناس إلى مذهب أهل السُّنَّة؛ تمهيدًا للتغيير الذي يُريده، إلى أن استتبَّ الأمر لصلاح الدين تمامًا في مصر، وبعد موت الخليفة الفاطمي العاضد سنة (566 هـ= 1171م) دفع صلاح الدين العلماء إلى المناداة بالمستضيء العباسي خليفة، والدعاء له في الجمعة والخطبة باسمه من على المنابر، وبهذا انتهت الخلافة الفاطمية في مصر، وحكم صلاح الدين مصر كممثِّلٍ لنور الدين، الذي كان في النهاية يُقِرُّ بخلافة العباسيين، وعادت مصر إلى حظيرة الخلافة الإسلامية مرَّة أخرى، وأصبح صلاح الدين سيد مصر، ليس لأحد فيها كلمة سواه.

تأسيس الدولة
كان نور الدين محمود ما زال حيًّا، وكان صلاح الدين خائفًا من أن يُحاربه نور الدين، ففكَّر لأجل ذلك أن ينظر في مكان آخر يُقيم عليه دولة له، فبدأ صلاح الدين مبكِّرًا في إرسال بعض خاصَّته يستطلعون الأحوال في بلاد النوبة واليمن وبرقة.

تُوُفِّيَ نور الدين محمود في شوال سنة (569هـ= 1174م)، وبدأ الأمر يستقرُّ لصلاح الدين، وبدأ يعمل على توحيد مصر والشام، فبدأ صلاح الدين بالتوجُّه إلى بلاد الشام بعد وفاة نور الدين، فسار إلى دمشق، وتمكَّن من إخماد الثورات التي قامت في الشام بسبب الطمع في مُلك نور الدين –رحمه الله، ومكث بها قُرابة العامين من أجل أن يُعيد الحكم إلى حالة من الاستقرار؛ فضمَّ إليه دمشق، ثم استولى على حمص ثم حلب، وبذا أصبح صلاح الدين سلطانًا على مصر والشام، ثم عاد إلى مصر وبدأ الإصلاحات الداخلية، وخاصة في القاهرة والإسكندرية، وقد توسَّعَتْ سلطة صلاح الدين في البلاد فامتدَّت من النوبة جنوبًا وبرقة غربًا إلى بلاد الأرمن شمالًا وبلاد الجزيرة والموصل شرقًا.

صلاح الدين والجهاد
كان قلب صلاح الدين –رحمه الله- مفعمًا بحبِّ الجهاد شغوفًا به، قد استولى على جوارحه؛ حتى قال عنه الإمام الذهبي في السير: «كانت له همَّة في إقامة الجهاد وإبادة الأضداد، ما سُمِع بمثلها لأحد في الدهر (1).

وقد هجر : من أجل ذلك أهله وولده وبلده، ولم يكن له مَيْل إلَّا إليه، ولا حبٌّ إلَّا لرجاله. يقول القاضي بهاء الدين: «كان الرجل إذا أراد أن يتقرَّب إليه يحثُّه على الجهاد». وقال: «ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد دينارًا ولا درهمًا إلَّا في الجهاد أو في الإرفاد لصدَّق وبرَّ يمينه» (2).
إنَّ لكل رجل هِمَّةً، وهمَّة الرجل على قدر ما أهمَّه، وكأنِّي بابن القيم –رحمه الله- يصف صلاح الدين حين قال: «النعيم لا يُدرك بالنعيم، وبحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاقِّ تكون الفرحة واللَّذَّة، فلا فرحة لمَنْ لا همَّ له، ولا لذَّة لمَنْ لا صبر له، ولا نعيم لمَنْ لا شقاء له، ولا راحة لمَنْ لا تعب له (3).
وهكذا كانت حياة صلاح الدين كلها جهاد، وكان يعود من غزو إلى غزو، ومن معركة إلى معركة، وقد استغرقت ترجمة ابن الأثير له في كتابه «الكامل في التاريخ» أكثر من 220 صفحة كلها مفعمة بالجهاد، وكانت معركة حطين من معاركه التي كُتبت بأقلام من نور على صفحات من ذهب، وسطرت على جبين التاريخ شاهدة له بكل معاني الجهاد والتضحية.
الحرب مع الصليبيين
بينما كان صلاح الدين يعمل على بسط نفوذه في الشام كان غالبًا ما يترك الصليبيين لحالهم مرجئًا المواجهة معهم، وإن كانت غالبًا لم تَغِبْ عنه حتميتها، إلَّا أنه كان عادة ما ينتصر عندما تقع مواجهة معهم، وكان الاستثناء هو موقعة مونتجيسارد (573 هـ= 25 نوفمبر 1177م) حيث لم يُبدِ الصليبيون مقاومة فوقع صلاح الدين في خطأ تَرْكِ الجند تسعى وراء الغنائم وتتشتَّت، فهاجمته قوات بولدوين السادس ملك أورشليم وأرناط وفرسان المعبد فهزموه، إلَّا أن صلاح الدين عاد وهاجم الإمارات الفرنجية من الغرب وانتصر على بولدوين في معركة مرج عيون سنة (575 هـ= 1179م)، وكذلك في السنة التالية في موقعة خليج يعقوب، ثم عُقِدَتْ هدنة بين الصليبيين وصلاح الدين سنة (576 هـ= 1180م).

إلَّا أنَّ غارات الصليبيين عادت فحفَّزت صلاح الدين على الردِّ؛ فقد كان أرناط يتحرَّش بالتجارة وبالحُجَّاج المسلمين بواسطة أسطول له في البحر الأحمر، فبنى صلاح الدين أسطولًا من 30 سفينة لمهاجمة بيروت سنة (577 هـ= 1182م)، وعندها هدَّد أرناط بمهاجمة مكة والمدينة، فحاصر صلاح الدين حصن الكرك معقل أرناط مرَّتين في عام 1183م وعام 1184م، وردَّ أرناط بمهاجمة قوافل حجاج مسلمين سنة (581 هـ= 1185م).

فتح القدس
في عام (583هـ= 1187م) سقطت أغلب مدن وحصون مملكة بيت المقدس في يد صلاح الدين، وبعد ذلك انتصرت جيوش صلاح الدين على القوات الصليبية في موقعة حطين في (24 من ربيع الآخر 583هـ= 4 من يوليو 1187م)، وبعد المعركة سرعان ما احتلَّت قوات صلاح الدين وأخيه الملك العادل المدن الساحلية كلها تقريبًا جنوبي طرابلس: عكا، بيروت، صيدا، يافا، قيسارية، عسقلان. وقطع اتصالات مملكة القدس اللاتينية مع أوربا، وفي النصف الثاني من سبتمبر 1187م حاصرت قوات صلاح الدين القدس، ولم يكن بمقدور حاميتها الصغيرة أن تحميها من ضغط 60 ألف رجل؛ فاستسلمت بعد ستة أيام، وفي 27 من رجب 583 هـ= 12 من أكتوبر 1187م فُتحت الأبواب ورُفعت راية السلطان صلاح الدين الصفراء فوق القدس.

وعامل صلاح الدين القدس وسُكَّانها معاملة أرقَّ وأخفَّ بكثير ممَّا عامل الغزاة الصليبيون أهلها حين انتزعوا المدينة من حُكْم مصر قبل ذلك بمائة عام تقريبًا، فلم تقع حوادث قتل وسلب ونهب وتدمير للكنائس، وأدَّى سقوط مملكة القدس إلى دعوة روما إلى بدء التجهيز لحملة صليبية ثالثة لاسترداد القدس، ولكنها باءت بالفشل.

ريتشارد قلب الأسد والحملة الصليبية الثالثة
حفَّز فتح القدس خروج حملة صليبية ثالثة، مُوِّلت في إنجلترا وأجزاء من فرنسا بضريبة خاصة عُرفت عند الغرب بضريبة صلاح الدين، قاد الحملة ثلاثة من أكبر ملوك أوربا في ذلك الوقت هم ريتشَارد قلب الأسد ملك إنجلترا، وفيليب أغسطس ملك فرنسا، وملك ألمانيا فريدريك بربروسا الإمبراطور الروماني المقدس، إلَّا أن هذا الأخير مات أثناء الرحلة، وانضمَّ الآخران إلى حصار عكا التي سقطت سنة (587هـ= 1191م)، وأُعدم فيها ثلاثة آلاف سجين مسلم بمَا فيهم من نساء وأطفال، وفي 7 سبتمبر 1191م اشتبكت جيوش صلاح الدين مع جيوش الصليبيين بقيادة ريتشارد في معركة أرسوف التي انهزم فيها صلاح الدين، إلَّا أنَّ الصليبيين لم يتمكَّنُوا من اجتياح الداخل، وبقوا على الساحل، وفشلت كل محاولاتهم لغزو القدس فوقَّع ريتشارد في عام (587هـ= 1192م) معاهدة الرملة مع صلاح الدين؛ مستعيدًا بموجبها مملكة أورشليم الصليبية في شريط ساحلي ما بين يافا وصور، كما فُتحت القدس للحُجَّاج المسيحيين.

وكانت العلاقة بين صلاح الدين الأيوبي وريتشارد مثالاً للفروسية والاحترام المتبادلين؛ رغم الخصومة العسكرية، فعندما مرض ريتشارد بالحمى أرسل إليه صلاح الدين طبيبه الخاصَّ، كما أرسل إليه فاكهة طازجة وثلجًا لتبريد الشراب، وعندما فقد ريتشارد جواده في أرسوف أرسل إليه صلاح الدين اثنين.

ومن المعروف أن صلاح الدين وريتشارد لم يلتقيا أبدًا وجهًا لوجه، وكان التواصل بينهما بالكتابة أو بالرسل.

وفاة صلاح الدين الأيوبي
بلغ صلاح الدين من العمر في عام (589 هـ= 1193م) السابعة والخمسين، غير أن ما تعرَّض له من الإرهاق والتعب طوال مدَّة اصطدامه بالصليبيين أنهك صحَّته، وقد أقام في بيت المقدس إلى أن عَلِمَ برحيل ريتشارد قلب الأسد؛ فالتفت إلى تنظيم الشئون الإدارية لإقليم فلسطين، غير أن العمل أَلَحَّ عليه بضرورة المسير إلى دمشق، وفي الوقت ذاته فإنَّ ما تجمَّع في أثناء السنوات الأربع التي أمضاها في القتال من مشاكل إدارية وتراكم الأعمال التنظيمية، استدعى أن يُؤَجِّل زيارته لمصر، وتأدية فريضة الحجِّ، وتَطَلَّبَ منه بذل مجهودٍ كبيرٍ لتعويض ما خَرَّبته الحروب، وما تهيَّأ له من وقت الفراغ أمضاه في المناقشات مع العلماء في المسائل الدينية، وكان يخرج للصيد أحيانًا، على أنَّ كلَّ مَنْ شاهده ممَّنْ يعرفه -في أواخر الشتاء- أدرك أنَّ صحَّته انهارت، فصار يشكو من التعب والنسيان، ولم يَعُدْ باستطاعته أن يستقبل الناس.

وفي 16 من صفر 589 هـ= 21 من فبراير 1193م انتابته حُمَّى صفراوية استمرَّت اثني عشر يومًا، وقد تحمَّل أعراض المرض بجَلَدٍ وهدوء، وقد علم أن النهاية اقتربت، وفي 24 من صفر 589هـ أول مارس انتابته غيبوبة، وبعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء في 27 من صفر= 4 من مارس وبينما كان الشيخ أبو جعفر إمام الكلاسة يتلو أمامه القرآن؛ حتى إذا انتهى إلى قوله تعالى: {هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22] فتح صلاح الدين عينيه وتبسَّم، وتهلَّلَ وجهه، وسمعه وهو يقول: «صحيح...». ثم مضى إلى ربِّه في قلعة دمشق؛ فتولَّى تجهيزه القاضي الفاضل والقاضي المؤرخ ابن شدَّاد، وغَسَّلَه خطيب دمشق، واجتمع الناس في القلعة، وصَلَّوْا عليه ودُفِنَ فيها، وعَمَّ الحزنُ الكبارَ والصغارَ، ثم جلس ابنه الملكُ الأفضلُ عليٌّ للعزاء ثلاثة أيام، وأرسل الكتب إلى أخيه العزيز عثمان في مصر، وأخيه الظاهر غازي في حلب، وعمِّه العادل في الكرك، فحضروا، ثم حُصِرَت تَرِكَتُه فكانت دينارًا واحدًا وستةً وثلاثين درهمًا، ولم يُخَلِّفْ من المال سواها ثابتًا أو منقولًا؛ إذ كان قد أنفق معظم ماله في الصدقات.


وبالرغم من أن الدولة التي أسَّسها صلاح الدين لم تدم طويلًا من بعده، فإنَّ صلاح الدين يُعَدُّ في الوعي الإسلامي مُحرِّرَ القدس، واستُلْهِمَتْ شخصيَّته في الملاحم والأشعار، حتى مناهج التربية الوطنية في الدول العربية، كما أُلِّفَتْ عشرات الكتب عن سيرته، وتناولتها المسرحيات والتمثيليات والأعمال الدرامية، ولا يزال صلاح الدين يُضرب به المثل على القائد المسلم المثالي، الذي يعمل على مواجهة أعدائه بحسم ليُحَرِّرَ أراضي المسلمين، دون تفريط في الشهامة والأخلاق الرفيعة.

المصدر: قصة الاسلام

إرسال تعليق

الموقع غير مسؤل عن اى تعليقات ولتتذكر قول الله تعالى (( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ))

 
Top