الإعلانات
, , , , ,

في تأصيل كلمة محراب وفي أصول هذه التقنية العربية القديمة

لطالما تساءلت عن معنى تسمية مِحْرَاب في مساجد المسلمين وأصلها، فبحثت وهذا ما وجدت:

لتسمية محراب تدرّجات في معناها. وليس فيها أبداً ما يشار إليه بخرافة أنّ اسمه المحراب لأنّ المسلم بحارب به الشيطان، هذا دجل.

يرد ما يشبه كلمة محراب أوّل مرّة في النقوش الحميريّة بصيغة {محرب 𐩣𐩢𐩧𐩨} والتي تشير إلى قسم محدّد من القصر، أيّ قصر كان. كذلك ورد في النقوش الحميريّة كلمة {تحرب 𐩩𐩢𐩧𐩨} بمعنى ركن التأمّل من المعبد، أيّ معبد كان من معابد الصلاة الحميريّة.

في النقوش الحميريّة ترد كذلك كلمة {حرب 𐩢𐩧𐩨} وهي الجذر للكلمتين السابقات، وكان تعني في الأصل القيام بشعائر دينية محدّدة في المحرب 𐩣𐩢𐩧𐩨 من المعبد (ثمّ صارت تشير إلى شعائر عبادة الخالق في أرض المعركة، أي فنون القتال). هذه الكلمة الأخيرة {محرب} نجدها بنفس المعنى في السبئيّة لكن بشكل مختلف هو {مكرب 𐩣𐩫𐩧𐩨}، وجذرها {كرب 𐩫𐩧𐩨} بمعنى {التكريس للتقرّب}. وأصلها من الكلمة الأگّديّة {كرابُ 𒅗𒊒𒁍} بمعنى {ليبارك} وكانت تسمية تُطلق كذلك على القرابين من الصدقات التي يتقرّب بها العابد من المعبود.

محراب المسجد الإسلامي لمدينة چيآن 西安市 في الصين
محراب المسجد الإسلامي لمدينة چيآن 西安市 في الصين

يبدو أنّ كلمة محرب الحميريّة قد دخلت الإسلام لتشير إلى المكان الذي يقف فيه الإمام لقيادة الصلاة جماعة (إمامتها)، فصارت في عربيّة القرن السابع محراب، والتي نجدها في ثلاث من المعاجم الأمّهات:

في الصحّاح نقرأ: قال الفراء: المحاريب. صدور المجالس، ومنه سُمِّيَ محراب المسجد. والمحراب الغُرفة. قال وضَّاح اليمن: لم أَلْقَها أو أرتقي سُلَّما ـ رَبَّةَ محراب إذا جئتُها.

وفي مقاييس اللّغة نقرأ: المحراب، وهو صدر المجلس، والجمع محاريب. ويقولون: المحراب الغرفةُ في قوله تعالى: {فَخَرَجَ علَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْراب} [مريم 11].

وفي القاموس المحيط نقرأ: المِحْرَابُ: الغُرْفَةُ، وصَدْرُ البَيْتِ، وأكْرَمُ مَواضِعِهِ، ومقامُ الإمامِ من المسجِدِ، والمَوضِعُ يَنْفَرِدُ به المَلِكَ فَيَتَبَاعَدُ عَنِ الناسِ، والأَجَمَةُ، وعُنُقُ الدابَّة. ومَحارِيبُ بَني إسرائيلَ: مساجِدُهُم التي كانوا يَجْلِسونَ فيها.

ويبقى أن أذكر أنّ الآراء تتضارب في من كان أوّل من بدأ فكرة المحراب في المسجد الإسلامي إذ يقول {الشيخ طه الولي} أنّ الأوّل هو الخليفة عثمان بن عفّان، بينما يقول {الواقدي} أنّ الأوّل كان الأموي عمر بن عبد العزيز أيّام كانت ولايته على المدينة المنوّرة في أيّام إمارة الوليد بن عبد الملك. ويقول {أحمد فكري} أنّ الأوّل كان عقبة بن نافع في مسجد القيروان.

بكلّ حال، أقدم محراب إسلامي باق إلى اليوم محراب من نهاية القرن الثامن، منحوت من الرخام، عُثر عليه في أطلال مسجد الخاصكي في بغداد، ومحفوظ اليوم في المتحف العراقي.

محراب مسجد الخاصكي معروض في متحف بغداد
محراب مسجد الخاصكي معروض في متحف بغداد

وإذا بحثنا في عمق الفكرة وجذورها…

في البحث وراء فكرة تصميم المحراب ووظيفته الصوتية في المساجد والمعابد نجد كلمة قنطرة.

قنطرة كلمة عربيّة نستعملها اسماً للجسر المبني بشكل قوس، سواء أكان جسراً على نهر أو جسر حامل للسقف. ونستعملها كذلك اسماً لخزّان الماء المبني بسقف محدّب، حتّى صار مع الوقت اسماً لأي خزّان ماء ري، لدى بعض العرب.

أصلها الجذر السرياني ق-ط-ر ܩ-ܛ-ܪ ومعناه إسناد شيء على شيء، وخرج عنه الاشتقاق قِطَرتا ܩܛܰܪܬܴܐ بمعنى جسر وبمعنى ربط مكانين ببعض أو شيئين ببعض. وعنه وفي العهد الهيليني خرج التصريف قِنطرون ܩܶܢܛܪܳܘܢ بمعنى “صوب المركز”، وصارت تستعمل بمعنى مركز إداري كمركز ناحية أو مركز بلدة، ودخلت اللغة الإغريقية بشكل κέντρον كينترون. وهي كذلك التي دخلت اللاتينية بصيغة گينترُم (قِنطرُم) cintrum وصارت في الإنگليزي المعاصرة سِنتر centre.

القنطرة بمعنى جسر دخلت اللغة الإيطالية من العربية فصارت صيغتها Alcantara وفي الإسپانية alcántara.

وهي تختلف عن كلمة چَنتارِه cantare اللاتينية أحد تصريفات الفعل چَنتو canō الذي يعني الإنشاد، وبهذا صار الچَنتاره هو مسرح الإنشاد. والملفت هنا أنّ فعل چَنتو أخذ معناه من شكل المحراب المقوّس الذي كان يغلّف ظهر المسرح ويعمل كمكبّر للصوت، حين يلتفت المنشد ويواجه المحراب ثمّ يغنّي فينعكس صوته إلى جمهور المستمعين. وبهذا يعود اسم المحراب اللاتيني چنت أو قنت إلى الجذر السرياني ق-ط-ر المصدر للتصريف قِنطرون الأصل للاشتقاق قنطرة، الذي يعني البناء المقوّس بإسناد طوبة على طوبة وحجر على حجر.

دور المحراب الأموي في توزيع صوت الإمام بين المصلّين خلفه في المسجد
دور المحراب الأموي في توزيع صوت الإمام بين المصلّين خلفه في المسجد، المصدر

وعن الجذر السرياني ق-ط-ر خرج كذلك اسم القطر (القطار) بسبب قطر كل مقطورة لمقطورة، وهو المعنى الأصل من الجذر قطر أي إسناد شيء على شيء.

وبهذا نفهم أنّ أصل الشكل المعماري لبناء القناطر والمحاريب واستعمالاتها هو أهل العراق، أهل السريانية الكلاسيكية، وأصحاب الجذر ق-ط-ر ܩ-ܛ-ܪ القديم.

جسر الخمسة المقنطر في تونس
جسر الخمسة المقنطر في تونس
الإعلانات

تبرّعك يساعدنا على الاستمرار، ويدعم تطوير هذا المحتوى العلمي

مرة واحدة
شهري
سنوي

تبرّع لمرّة واحدة

تبرّع شهريّاً

تبرّع سنويّاً

اختر المبلغ

€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00
€5.00
€15.00
€100.00

دعمك لنا مفيد جداً.

شكراً جزيلاً لدعمك.

نقدر على الاستمرار بفضل دعمك.

تبرّعتبرّعتبرّع

تعليقات

أضف تعليق

الإعلانات

إنشاء موقع إلكتروني أو مدونة على ووردبريس.كوم