شعار قسم مدونات

تحت عدسة المجهر

blogs-بكتيريا

لطالما تساءلت ماذا سنرى إن وضعنا الإنسان تحت عدسة المجهر؟ ماذا سنستخلص ونستنتج؟ هل سيزيد تقديرنا له أم سنشمئز من تصرفاته ونمط عيشه؟ عدسة المجهر قادرة على إظهار أخفى أسرار الكائنات المجهرية في المختبر، فهي كاليد اليمنى للعلماء، لكن حجم الإنسان عقبة أمام المجهر، جاعلا أعمق أسراره تبقى خفية يُستعصى الوصول إليها، لكن كتسوية سننظر إلى ما هو نقيض الإنسان من حيث الحجم وعدد الخلايا، نتحدث عن نِد الإنسان المجهري، البكتيريا، ليس لإثارة الضجر في نفوسكم وإنما لتسليط الضوء على زاوية قد تكون غير مرئية للبعض منا.
 

البكتيريا كائنات مجهرية، تعرف لدى العلماء بأنها أحادية الخلية وبدائية النواة أي الحمض النووي الخاص بها لا يحاط بغشاء بل يسبح وسط محتويات هذه الكائنات الدقيقة. تحمي نفسها بغشاء خلوي وفي بعض الأحيان بجدار خلوي بتركيبات كيميائية تجعل البكتيريا المختلفة تصنف ضمن مجموعتان مختلفتان لا داعي للتطرق لهما، فهو موضوع يحتاج صفحة بيضاء أخرى.
 

رغم صغر حجم هذه الكائنات، وقد يقول البعيد أنها ذات "إمكانيات محدودة" بفعل هذا الحجم، إلا أنها تمكنت من قلب عالمنا رأسا على عقب، تسيطر على جسدك وتجعلك عبدا لها وتحت رحمتها في عد تنازلي

من جانب آخر هذه الكائنات الغير مرئية لأعيننا المجردة تتحرك بما يعرف بالأسواط والتي لها تصنيفات خاصة بها أيضا، تغطي هذه المخلوقات الخلابة نفسها بمادة تساعدها على الوصول إلى مبتغاها، وهو أمر ببساطة وصفه يحتاج لدراسة خاصة به فقط. علاوة على ذلك تحمل البكتيريا داخل وخارج كيانها الصغير أسلحتها الخاصة التي تستطيع أن تحتل العالم به لتحكمه إن كان هذا ممكنا، فلمَ لا؟ وهي بمجرد وصولها للدم تتمكن من إسقاط أكثر البشر قوة وصحة على الفراش ثم تحت الأرض إن لم يعالج بالطريقة الصحيحة، هذا إن توفر العلاج، كائن بصغر أدق خلايا جسدك قادر على ترويضك رغم ما تتفاخر به من ثروات وإنجازات فارغة إن وجدت.
 

ومن الجدير ذكر أقوى أسلحة البكتيريا وأشدها تعقيدا والذي يشكل عائقا للعلماء في مختبراتهم هو حمضها النووي، فهذا الحمض النووي أي طفرة فيه تساعده على مقاومة أقوى وأشد الأدوية في صيدلياتنا نحن البشر لتجعلها مجرد تركيبات كيميائية بلا فائدة. وبمجرد أن تتطور أي بكتيريا بطفرة بسيطة في حمضها النووي تلجأ إلى تركيب يسمى بلازميد (plasmid)، وهو شكل من أشكال الحمض النووي دائري الشكل وشديد الصغر يحمل معه الطفرة الجديدة، ينتقل بين بكتيريا وأخرى من خلال تركيب آخر كالأنبوب يسمى أشعار بكتيرية (pili) لتتحول من بكتيريا حميدة إلى أشرس الكائنات المجهرية، وكأنها تعمل على مبدأ الخير يعم الجميع، وكيدٍ واحدة نعمل.

رغم السمعة السيئة التي لحقت البكتيريا منذ القدم، إلا أننا وبلا أي مبالغة لن نتمكن من العيش بلا وجودها، بل حتى تشير الدراسات إلى وجودها قبل وجود البشر أساسا، فأنت بالدرجة الأولى محمي من أشرس أنواع البكتيريا بفضل البكتيريا الحميدة التي تسرح وتمرح على جلدك، فوجودها يحميك من احتلال جسدك من قِبل عدوكما المجهري المشترك، بل الكثير من الأطعمة الموجودة على موائدنا لم تكن لتكون بلا هذه الكائنات الفاضلة، كم من السنوات نحتاج للحاق بما أنجزته هذه الكائنات الشرسة الخلابة؟
 

إضافة إلى ما سبق ذكره، لتتمكن أي بكتيريا من إثبات وجودها في جسد الإنسان تبدأ بالتكاثر لتشكل مستعمرات بأعداد متفاوتة، فهي لا تعمل وحيدة بل تحتاج لأقرانها لبت الرعب بين خلايانا أو لتعيش بسلام وتفيد نفسها دون الإيذاء، لكن ماذا عنا نحن؟ نقول أن في الاتحاد قوة وفي التفرق ضعف، لكننا قلبنا موازين هذه العبارة تماما، نعمل كأفراد بكل أنانية.
 

نحن من وضعنا لأنفسنا القيود وخلقنا العقبات وجعلنا لأدق مخلوقات الله سيطٌ يعلو فوق رؤوسنا. فهل يا ترى إن وضعنا أنفسنا تحت عدسة المجهر سنشعر بالفخر أم بالخجل؟

رغم صغر حجم هذه الكائنات، وقد يقول البعيد أنها ذات "إمكانيات محدودة" بفعل هذا الحجم، إلا أنها تمكنت من قلب عالمنا رأسا على عقب، تسيطر على جسدك وتجعلك عبدا لها وتحت رحمتها في عد تنازلي، لكن على الجانب الآخر ترى إنسانا يفوقها حجما بكل القدرات والإمكانيات في العالم والطموحات الممكنة والإنجازات المؤجلة إلا أنه يكتفي بأكل وجبة سريعة على فراشه ومشاهدة أفلام هوليوودية لساعات ونقد مجتمعاتنا وذم حضارتنا وتعظيم تلك المجتمعات الظاهرة على شاشته بلا أي مساهمة في مجتمعه بأي شكل من الأشكال.

كائنات بصغر حجمها تمكنت من خلق اسم وهيبة لها في كل قاعة محاضرات وفي كل جلسة وكل مختبر، وفي كل ثانية ودقيقة وساعة ويوم تزداد هذه الكائنات قوة وعددا. وبشر بكل ما وهبهم الله من طاقات تراهم ضائعون لا يعرفوا لذاتهم هوية. لم يخلق الله هذه المخلوقات العبقرية للأسباب التي ذكرتها آنفا فحسب، بل حتى نتأمل فيها ونتعلم منها، فكل مظاهر الكون أحد أسباب وجودها هو التأمل والتفكر "إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأوْلِى الألباب" سورة آل عمران آية 190.
 

العظمة والإنجاز لا يقيدهما حجم ولا نوع ولا جنس ولا عرق ولا عمر، لا قيود لهما، بل هما فضاء واسع كالذي يحيط بمجرة درب التبانة بل وأعظم. نحن من وضعنا لأنفسنا القيود وخلقنا العقبات وجعلنا لأدق مخلوقات الله سيطٌ يعلو فوق رؤوسنا. فهل يا ترى إن وضعنا أنفسنا تحت عدسة المجهر سنشعر بالفخر أم بالخجل؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.