شعار قسم مدونات

لغز الرصيف في مدن العرب

blogs الرصيف بسوريا

قد يندهش القارئ حين نترك كل مشاكل المدينة العربية، ونكتب فقط عن مُكون في المنظومة العمرانية والتخطيطية قد يبدو هامشياً محدوداً وهو الرصيف. اتفهم الاندهاش تماماً ولكني أيضا أتفهم أن جزءً جوهرياً من مشاكل المدن العربية بل ومن مشاكل العرب ككل، أننا لا نلتفت إلى تأثير العناصر الصغيرة البسيطة والمكونات المتواضعة التي يكون تأثيرها النفسي والاجتماعي والإنساني والسلوكي متعاظم وفارق ولكننا لا نعلم أو لا نهتم.

 

على سبيل المثال هل تأملت مرة كيف يمشي الناس في شوارع المدينة العربية؟ هل رأيت التدفقات البشرية وهي تتحرك في بحور الشوارع متعرضة لخطر الإصابة بل وحتى للموت بسبب تداخلها المثير مع حركة السيارات المتسارعة التي لا يعني سائقيها كثيرا من يتحرك سيراً على الأقدام؟

 

استوقفني تكرار هذه الظاهرة حتى في العواصم العربية وليس فقط في مدن صغيرة أو بلدات محدودة؟ أما المشهد الذي توقفت أمامه طويلا فهو مشهد كبار السن المتحركين بصعوبة جمة وهم يستندون على عكازاتهم بينما تمرق السيارات من حولهم وتتدخل فقط عناية السماء لتحافظ على أرواحهم أو يتساقط بعضهم لم تسعفه حظوظه أمام سيارة طائشة أو عربة نقل متجاوزة. يتحرك هؤلاء العجائز في الشارع لأن تعدد مستويات الرصيف الذي خضع لكل أنواع الاجتهاد من كل صاحب محل أو عقار مطل عليه، يجعل استمرارية الحركة عليه لأمتار عدة، مشكلة بل تحدي لا يجرؤ عليه الشباب فما بالك بكبار السن.

بدأ الرصيف واضحاً وملائماً للسير في بدايته، إلا أن المارين سيفاجئون لاحقاً بصاحب محل أخرج بضاعته للعرض في الشارع أو شخص اعترض الرصيف كاملا بسيارته أو صاحب عقار وضع سلاسل حديدة لمنع العبور
بدأ الرصيف واضحاً وملائماً للسير في بدايته، إلا أن المارين سيفاجئون لاحقاً بصاحب محل أخرج بضاعته للعرض في الشارع أو شخص اعترض الرصيف كاملا بسيارته أو صاحب عقار وضع سلاسل حديدة لمنع العبور
 

من خلال هذه المشاهد المتكررة تبلور لدي تساؤل مستمر عن ظاهرة بل ولغز اختفاء الرصيف من منظومة العمران العربي. أول ملامح الإجابة يجسدها تحول الرصيف من حيز مخصص للإنسان إلى امتداد فوضوي للمحلات التجارية المطلة عليه، أو مكاناً أمناً لانتظار سيارة تمكنها قدراتها الميكانيكية من القفز فوقه.

 

لم أتوقف فقط عند مرحلة التساؤل والاندهاش ولكني حولت اهتمامي إلى القيام بمجموعة من الدراسات البحثية المعنية بدور وقيمة الرصيف في مدن العرب المعاصرة. في إحدى هذه الدراسات، استطلعت رأي المارة في بعض الشوارع الواقعة في أحياء قاهرية توصف بأنها أحياء راقية تضم علية القوم ومستويات وقطاعات متميزة من التركيبة المجتمعية في مصر.

المثير أن الدراسات وثقت أنه على الرغم من وجود بعض الأرصفة إلا أن الناس ما زالت تتحرك في الشارع بصورة غالبة. عندما طرحت عليهم الأسئلة الاستبيانية، كانت الإجابات دالة وبديعة. فقد أجاب الجانب الأكبر من المشاركين بأنهم فقدوا الثقة في الرصيف حتى لو بدأ الأمر في أوله مبشراً.

 

فلو بدأ الرصيف واضحاً وملائماً للسير في بدايته، إلا أنهم يملكون اليقين أنهم سيفاجئون لاحقاً بصاحب محل أخرج بضاعته للعرض في الشارع أو شخص اعترض الرصيف كاملا بسيارته أو صاحب عقار وضع سلاسل حديدة لمنع العبور أو مالك كشك لبيع المرطبات تفتق ذهنه عن توسعات تجارية تجاوزت حجم كشكه الأصلي عدة مرات وكلها على رصيف المشاة.

لقد أجمع علماء العمران وتخطيط المدن على أن الرصيف الأمن المخصص للمشاة هو أحد أهم علامات المدينة الراقية المتطورة الصديقة للإنسان. بل أن الرصيف أصبح مسرحاً للحياة الاجتماعية والترفيهية عندما يتيح تخطيطه وتصميميه ومساحته وفضاءاته أن يكون حيز لمرور الناس وأيضا لجلوسهم وتفاعلهم واندماجهم مع البيئة الطبيعية.

 

كل شوارع المدينة وميادينها وفراغاتها مجندة من أجل تجربة مكانية جميلة للإنسان، وهنا نعني الرجل والمرأة والطفل والمسن وحتى أصحاب الاحتياجات الخاصة

تأمل على سبيل المثال حالة شارع الشانزليزيه الأشهر في مدينة باريس، والذي تمثل مقاهي الأرصفة به جزءاً لا يتجزأ من هويته ومذاقه بل إنها مقوم من مقومات شخصية المدينة كلها. ولكن تتحقق هذه الحالة دون أن يُمنع الناس من التحرك الأمن السلس. أو تأمل مثلاً كيف أصبحت عروض الأرصفة في بعض مدن أوروبا وخاصة في النمسا وبلجيكا والسويد والنرويج وألمانيا، أكبر من عروض حارات الطريق المرصوف المخصصة لحركة السيارات.

أتذكر بوضوح رحلة علمية بحثية قمت بها مؤخرا قادتني الى بلجيكا، زرت خلالها ثلاث مدن هي بروكسل ولوفن وانتورب حيث قمت بعمل محاضرات عامة في الجامعات ولقاءات مع الباحثين في برنامج الدكتوراه في العمران والتخطيط. القيمة الأهم البارزة في المدن الثلاث هي صداقتها الحميمة للإنسان.

 

كل شوارع المدينة وميادينها وفراغاتها مجندة من أجل تجربة مكانية جميلة للإنسان، وهنا نعني الرجل والمرأة والطفل والمسن وحتى أصحاب الاحتياجات الخاصة. ولكنني لاحظت أن الرصيف تقريبا هو حيز مقدس والاعتداء عليه تقريبا شبه منعدم لأن هناك اتفاق جمعي على أنه حيز للجميع وليس فضاء لإبراز سطوة صاحب محل أو جاه مالك عقار أو نفوذ صاحب مطعم أو مقهى.

من أفضل ما قرأت في هذه القضية عن رباعية الشارع والرصيف والإنسان والمدينة كتاب بعنوان "تصميم الشوارع: السر لمدن وبلدات عظيمة" للمؤلفين جون ماسينجال وفيكتور دوفر. أن الدافع الحقيقي للكتاب كان بسبب التوجه العالمي الذي يتحكم الأن بقوة في بعض أدبيات العمران والتخطيط والمؤتمرات المهمة، ويعني بفكرة خلق شوارع للإنسان وليس للسيارة.

 

لقد وثق الكتاب تجوال المؤلفان في مدن مختلفة حول العالم في محاولة إلى الإجابة عن تساؤل مهم: ما هي العوامل التي تجعل بعض الشوارع جميلة وعظيمة ومحبوبة من سكان المدينة وزوارها؟ وهل حقا أن هذه الشوارع تجعل المدينة كلها أفضل وأجمل وأكثر قرباً من الإنسان. هذه المنهجية ساعدت في أن يقدم الكتاب مجموعة من الدروس المستفادة التي استخلصت من شوارع مدن غطت مجالاً جغرافياً متسعاً.

 

الرصيف في صياغته المعاصرة ليس فقط ممرأ جانبياً على حدود الشارع، ولكنه حيز إنساني ينتج عن جهود تصميمية مخلصة ومبدعة تخلق تكويناً متسقاً يشمل أرضيات الممرات وتوافق تشكيلاتها الهندسية
الرصيف في صياغته المعاصرة ليس فقط ممرأ جانبياً على حدود الشارع، ولكنه حيز إنساني ينتج عن جهود تصميمية مخلصة ومبدعة تخلق تكويناً متسقاً يشمل أرضيات الممرات وتوافق تشكيلاتها الهندسية
 

يقدم المؤلفان تفصيلا عن فن وتطبيق تصميم شوارع صديقة للإنسان ويصر المؤلفان على أن الشوارع الجميلة بل ويصفونها بالعظيمة هي السر الأكبر والأهم في تصميم وتخطيط مدن ومستقرات جميلة وعظيمة. الجدير بالذكر أن الكتاب في تحليله لتصنيفات من الشوارع شملت القديمة والجديدة والمطورة التي خضعت للتحسين والتحديث نبه إلى الأهمية الشديدة للرصيف النشيط الأمن المفعم بالحياة.

إن الرصيف في صياغته المعاصرة ليس فقط ممرأ جانبياً على حدود الشارع، ولكنه حيز إنساني ينتج عن جهود تصميمية مخلصة ومبدعة تخلق تكويناً متسقاً يشمل أرضيات الممرات وتوافق تشكيلاتها الهندسية، وتوزيع الأشجار المظللة والنباتات وأحواض الزهور بديعة الألوان، وأماكن الجلوس الثابتة والمتحركة واللافتات الأنيقة ووحدات الإضاءة متميزة التصميم، والمظلات وامتدادات مدروسة لبعض المقاهي والمطاعم.

 

كل هذا ومع ضمان الاستمرارية الكاملة لحركة المشاة على الرصيف وبحيث يملك ساكن المدينة أو زائرها كامل الثقة أنه يستطيع التحرك على أرصفتها دون أي معوقات أو حواجز بل رحلة سلسة جميلة أنيقة يتفاعل فيها مع المدينة ويتذكرها بل ويعشقها أحيانا. إن المدخل للتعامل مع الشارع كشريان للحياة الإنسانية ومسرح لأحداثها بدلا من أن يكون مجرد محور مروري يحتفي بالسيارات ويمجدها، يبدأ بمدى الاهتمام بأرصفة الشوارع وتحويلها من ممرات جافة معرضة لأقصى درجات الاعتداء من ملاك وتجار وأصحاب عقارات جائرين إلى أحيزة جميلة نشطة متميزة التصميم، وبالتالي تكون أحد أهم العوامل التي تجعلنا نتيقن أن مدن العرب تحب وتحترم وتقدر الإنسان وخاصة السائر على قدميه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.