شعار قسم ميدان

الطريق إلى المجد.. كيف أعاد المغرب إحياء الحلم العربي؟

"أجيال ورا أجيال، هتعيش على حلمنا، واللي نقوله اليوم، محسوب على عمرنا.. جايز ظلام الليل يبعدنا يوم إنما يقدر شعاع النور يوصل لأبعد سما".

هذا هو المقطع الأشهر من أوبريت "الحلم العربي"، الأوبريت الذي صدر عام 1998 واشتهر شهرة واسعة في بدايات الألفية الثالثة عقب انتفاضة الأقصى الثانية. هذا المقطع يُعبِّر -كما تُعبِّر معظم مقاطع الأوبريت- عن ذلك الحلم الأزلي بإقامة وطن عربي موحَّد يجمع كل الدول الناطقة بلسان عربي تحت لوائه. (1)

23 مُطربا من 14 دولة عربية مُختلفة اجتمعوا للغناء من أجل حلم أمة كاملة. ذلك الحلم الذي تاه منا وتهنا عنه لعقود من الزمن، ذلك الحلم الذي مزّقته الصراعات السياسية وأودت به، ذلك الحلم الذي لم يتحقق في الماضي القريب، وربما لن يتحقق في المستقبل القريب كذلك، لكننا -نحن العرب- نحمله في مكان ما بداخلنا، وننتظر دائما تلك الشرارة التي تجعلنا نجتمع من المحيط إلى الخليج، ربما ليس جغرافيا، وإنما "على قلب رجل واحد". (1)

الشرارة

يداعب مونديال قطر فينا هذه الأحلام مجددا. فمن ناحية، هذا هو المونديال الأول من نوعه الذي يُقام على أراضٍ عربية، لذلك فإن تلك النسخة لها خصوصية كبيرة بالنسبة لنا نحن العرب، ولكن ما جعلها أكثر خصوصية هو وصول المنتخب المغربي إلى الدور ربع النهائي في البطولة بعد إقصائه للمنتخب الإسباني، أحد أبرز المرشحين لنيل اللقب، ثم للمنتخب البرتغالي بعده، هذا التأهل هو الأول من نوعه لهذا الدور من البطولة لأي منتخب عربي أو أفريقي عبر تاريخ المونديال الطويل والممتد من ثلاثينيات القرن الماضي، لأول مرة يوجد منتخب عربي بين أفضل 4 منتخبات في العالم، وفي الحدث الكروي الأضخم على الإطلاق.

(رويترز)

‘لم أفهم ما كنت أراه وأسمعه! كان هناك مصريون وأردنيون ويمنيون وعراقيون، كلهم تركوا أسرهم ووظائفهم وأتوا لهدف واحد فقط؛ مؤازرة المغرب في مشواره المونديالي".

جاءت تلك الكلمات على لسان أحد المشجعين المغاربة اسمه حسن، وهو مواطن مغربي كان على متن إحدى الطائرات المُسافرة نحو الدوحة قبل مباراة المغرب وإسبانيا بـ24 ساعة، حسن أمسك بهاتفه وبدأ بتصوير فيديو يظهر فيه تقريبا كل مَن على متن الطائرة وهم يتغنون بشيء واحد فقط؛ منتخب المغرب. (2)

بعد دقائق قليلة من السير في منطقة سوق واقف، وهي واحدة من أشهر المناطق التي يجتمع بها المشجعون من الدول المختلفة في مونديال قطر، يقول حسن إنه شعر وكأن المغرب هو الدولة المُستضيفة للبطولة! الأعلام المغربية في كل مكان، وهي أحد أكثر الأشياء مبيعا في الدوحة، وبجانبها ذاك القميص الذي يحوي العلم المغربي والقطري والسعودي والتونسي، بالإضافة إلى عبارة مكتوبة عليه بالخط العريض: "دمّنا عربي". (2) (3)

الكلام ذاته الذي أتى على لسان حسن أتى كذلك على لسان الشاب المغربي أسامة القبّاني، الذي يُكمل دراسته الجامعية في دولة قطر، حيث يقول: "العدد الهائل من العرب الذين يدعمون المغرب ويؤازرونه يجعلني أشعر وكأنني في الدار البيضاء أو الرباط وليس في قطر!".

(رويترز)

تعداد قطر السكاني هو 2.7 مليون نسمة، 15% من المواطنين القطريين، بخلاف 13% من دول عربية مختلفة أخرى، هذا يعني سبعمئة ألف عربي أو يزيد، بخلاف آلاف الجماهير العربية التي أتت لحضور الحدث المونديالي من الدول المجاورة، ربما هذا هو أحد الأسباب -بجانب أسباب أخرى بالطبع- التي جعلتنا نرى المنتخبات العربية تحقق انتصارات مذهلة في دور المجموعات من البطولة؛ تونس أمام حامل اللقب فرنسا، والسعودية أمام الأرجنتين، والمغرب أمام بلجيكا، حيث في كل مباراة، كان الجمهور العربي يملأ مقاعد الملاعب المونديالية، لدرجة أنك قد لا تستطيع سماع أصوات مشجعي المنتخبات الأخرى من حجم الصخب في المدرجات العربية. (4)

قطر والسعودية وتونس غادروا جميعا من الدور الأول، ولكن بقي العديد من مشجعيهم في قطر لدعم الحلم المغربي، إلى جانب كل العرب الموجودين بقطر من الدول التي لم تتأهل للمونديال، وكلهم الآن تحت راية واحدة. أيمن، وهو مشجع تونسي جاء لقطر قبل خمس سنوات من مدينة سوسة، يقول إنه شاهد كل مباريات المنتخب التونسي في دور المجموعات، وعندما خرجت تونس كان القرار بسيطا؛ الوقوف خلف المغرب ومؤازرته لبلوغ أقصى نقطة ممكنة، أيمن أردف قائلا: "جميعنا منتخب واحد، فريق واحد، وانتصار المغرب هو انتصار لكل عربي".

محيي خالد، وهو أحد المشجعين المصريين الموجودين في قطر، قام بلفّ نفسه بالعلم المغربي قبل مباراة المغرب والبرتغال في دور الـ8 التي لُعبت يوم السبت الماضي، وعند سؤاله من أحد مراسلي شبكة "فرنسا 24" (France 24)، عقّب محيي قائلا: "المغرب يُمثِّل حلما عربيا جميلا، يجعلنا جميعا نشعر بالفخر والسعادة". (3)

هناك أيضا فاضل، وهو شاب موريتاني الهوية عاش في دولة قطر 12 عاما، قال في تصريحه لصحيفة الغارديان البريطانية: "جواز السفر لا يعني لنا شيئا، أشعر أنني عربي وهذا هو الأمر بكل بساطة، نحن لا نسأل بعضنا بعضا من أين أنت". أيمن ومحيي وفاضل هم ثلاثة أشخاص فقط من ملايين موجودين في كل رقعة صغيرة كانت أم كبيرة بالوطن العربي، جميعهم يحملون بداخلهم الكلمات والمشاعر الصادقة ذاتها. (2) (3)

في قلب العاصمة الليبية طرابلس، ارتفعت الأعلام المغربية وامتلأت سماء المدينة بالألعاب النارية. حدث الأمر ذاته في كل العواصم والمدن العربية. (رويترز)

لا تقتصر مشاعر التضامن تلك على الأراضي المونديالية في قطر. ففي قلب العاصمة الليبية طرابلس، ارتفعت الأعلام المغربية وامتلأت سماء المدينة بالألعاب النارية. حدث الأمر ذاته في العاصمة اللبنانية بيروت؛ حيث ارتفعت أصوات الجميع في الساحات هاتفين باسم المغرب، وبمجرد إعلان الحكم صافرة نهاية اللقاء بين إسبانيا والمغرب يمكنك أن تسمع بوضوح أبواق السيارات في شوارع العاصمة بيروت احتفاء بفوز المغرب. (3) (5)

في جدة والقاهرة وبغداد وغزة وكل العواصم والمدن العربية، يمكنك أن ترى بوضوح المظاهر ذاتها، المقاهي والساحات الشعبية ممتلئة عن آخرها لدعم المنتخب المغربي، وداخل كل بيت عربي هناك أسر تشجع وتؤازر المغرب تماما كما يؤازرون منتخب بلادهم، حتى أولئك الذين لم يتابعوا مباراة كرة قدم واحدة في حياتهم! بالنسبة للجميع؛ مَن يلعب هو منتخب العرب، بألوان كل العرب، وبآمال كل العرب. الأجمل أن المشهد نفسه يحدث في الجزائر، رغم التوترات السياسية التي لا تخفى على أحد. (6) (7)

"السياسة للسياسيين، أنا مع المغرب، المغرب بالنسبة لي كما الجزائر، وأتمنى أن يصل إلى أبعد نقطة ممكنة". (3)

جاءت تلك العبارة أعلاه على لسان وهران أبابكر، وهو مواطن ورجل أعمال جزائري يسكن في قطر، في تصريحات أدلى بها لشبكة "فرنسا 24". ميلود محمد، وهو سائق سيارة أجرة بمدينة الجزائر، أدلى لأحد صحفيي شبكة رويترز بتصريحات مشابهة لما قاله أبوبكر، حيث قال: "إذا ركزنا على السياسة، فإن المغرب هو عدو لنا، لكن كرة القدم لا تتعلق بالسياسة. لهذا السبب دعمت المغرب في كأس العالم هذه". العديد من الجزائريين يحملون وجهة النظر نفسها، وهناك مَن لا يرى ذلك؛ متأثرا بالصراع السياسي، ولكن يظل ما يحدث الآن تقدُّما أكثر من جيد، أليس كذلك؟ (6)

(رويترز)

ربما لم نشهد مظاهر التضامن تلك منذ سنوات، كرة القدم فعلت ما لم يقوَ على فعله سواها. في ليبيا وسوريا والعراق، نسي الجميع معاناتهم السياسية والاقتصادية واجتمعوا على مؤازرة المنتخب المغربي، وفي لبنان، ربما للحظة واحدة، ستشعر أن كرة القدم تجمع بلدا منقسما!

بوصوله إلى نصف النهائي المونديالي، حقق المغرب ما لم تحققه أي دولة عربية أو أفريقية أخرى، إنجاز يستحق الفخر لسنوات وسنوات، إنجاز ربما ستكون له اليد العليا في التخلص من مصطلح "الخسارة المشرفة" أو "الخروج المشرف". ما فعله المغرب هو التمثيل المشرف بحق! وبعد أن قطعنا كل هذا الشوط، لماذا لا نحلم بالكأس؟

قبل 27 عاما من الآن، كان أوبريت "الحلم العربي" فكرة، مجرد فكرة خطرت لأحدهم أن يجمع كل هؤلاء المطربين معا في مكان واحد ليغنوا لحلم واحد، أملا في أن يجمع الفن ما فرَّقته السياسة. ينجح الأوبريت، وتتغنى الأمة العربية بأكملها بألحانه وكلماته، لينجح الفن في رسالته، واليوم؛ تفعل كرة القدم الشيء ذاته، وتجمع 24 دولة عربية على قلب رجل واحد، ينبعث حلم عربي جديد ويلوح في الأفق، حلم نرى فيه بلدا عربيا، لأول مرة، رافعا أغلى الكؤوس. (1)

ربما يتحقق الحلم، وربما لا، ولكن في كلتا الحالتين، نجح المغرب في إرسال الرسالة الرياضية الأسمى، نجح في أن يجمع قرابة 450 مليون عربي من المحيط إلى الخليج، تحت راية واحدة، وعلى حلم عربي واحد.

______________________________________-

المصادر:

المصدر : الجزيرة