DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

لم يتبق من الرصيف سوى شريط ضيق تتوزع عليه أعمدة الإنارة بشكل غير منتظم ليستحيل استخدامه على المشاة

واقع الأرصفة يتطلب توفير منظومة هندسية متكاملة

لم يتبق من الرصيف سوى شريط ضيق تتوزع عليه أعمدة الإنارة بشكل غير منتظم ليستحيل استخدامه على المشاة
 لم يتبق من الرصيف سوى شريط ضيق تتوزع عليه أعمدة الإنارة بشكل غير منتظم ليستحيل استخدامه على المشاة
أخبار متعلقة
 
استعرضنا في الحلقة الماضية دليل تصميم الأرصفة، والشروط والمواصفات الملزمة لجميع المصالح والجهات الحكومية والمطورين والملاك والمقاولين المنفذين لمشاريع الأرصفة في جميع أمانات وبلديات المملكة. وتناول الدليل دور أمانات وبلديات المملكة في التأكد من مطابقة الأرصفة للأنظمة والتعليمات. كما تطرق إلى المعايير الهندسية لتصميم الأرصفة وحدد خصائص تصميمها الهندسي، وحدد معايير وشروط معابر المشاة في مختلف الأماكن وطبيعة علاقتها بالمرافق الأخرى. وفي هذه الحلقة من الملف نستمع لآراء المهندسين والخبراء الذين أكدوا على أهمية التخطيط الهندسي وضرورة مراعاة المعايير والاشتراطات والمواصفات الهندسية في إنشاء الأرصفة وأشاروا إلى أهمية توظيف الأرصفة وتطويرها في إطار منظومة متكاملة لحركة المشاة في مدننا. فالتخطيط الهندسي هو المرحلة الأولى من مراحل مشاريع رصف الشوارع، ومن خلاله تتم مراعاة الجوانب المحيطة بالموقع من جميع نواحيه، وعلى أساسه تنفذ أعمال الإنشاء ويتم اختيار المواد المناسبة لعملية الرصف.. والمهندس له نظرة وأبعاد يتمنى تطبيقها على أرض الواقع، وأفكار تساهم في إنعاش الأرصفة في الوقت الذي سُلبت منها أهم وظائفها الأساسية. يرى المهندس عبدالرحمن أحمد الصايل أن الأرصفة هي الأساس الأول للحركة في المدينة وتوسيع شبكاتها والاهتمام بها في داخل الأحياء السكنية أولى من شبكات الطرق. وذلك لأن لها عائداً صحياً كبيراً على مستخدميها ومردوداً اجتماعياً يكمن في تفاعل الناس مع فراغات المدينة، وعائداً بيئياً هاماً. فمتى ما كانت متوافرة بصورة كافية ستشجعنا على ترك مركباتنا في المنزل وبالتالي الحد من انبعاثات الغازات الصادرة من المركبات والتي جعلت مدننا ملوثة وغير صالحة للمشي، ولذلك أقرت منظمة الأمم المتحدة أن الأرصفة من أهم عناصر المدينة الخضراء والمدن المستدامة حضريا. وأضاف أن كفاءة الأرصفة تقاس (كميا) من خلال مدى تغطيتها داخل المجاورات السكنية، ووصولها للخدمات المهمة كالمستوصف والمسجد والمركز التجاري والمدرسة وملاعب الأطفال، وربطها بمركز الحي بالإضافة إلى أن تكون مظللة طبيعيًا بالأشجار وملطفات الأجواء الحارة كالمسطحات الخضراء والجداول المائية. ونقيسها (كيفيا) عن طريق كيفية انشائها هندسيا، ومدى استخدام المعيار العالمي لتصميمها، ومدى مناسبتها لذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن، بالإضافة لمواد الانشاء المستخدمة وأنواع التبليط وطريقة تصميمه التي تساهم في توجيه حركة المشاة الى الفراغات الهامة وتخفف عنهم مشقة السير.وأضاف الصايل : واقع أرصفتنا بعيد جدا عن المعايير الموضوعة، فبالرغم من أن المساحات خارج جدران المنزل من أرصفة تعتبر ملكاً عاماً مشاعاً لجميع الناس لا يحق لأحد الاستيلاء عليه، ,إلا أننا نرى استغلالاً بطرقٍ شتى تغير الوظيفة التي صمم الرصيف لأجلها، فأصحاب المنازل الخاصة يعتبرونها جزءا من ممتلكاتهم، فيزرعون فيها أشجاراً تمنع المشاة من السير على الرصيف ويضطرهم إلى السير في مسارات السيارات ما يترتب عليه خطورة قصوى، كما أن بعض أصحاب المحلات التجارية يعرضون بضاعتهم خارج محلاتهم مستغلين أرصفة المشاة، أو يستخدم الرصيف كمستودع إضافي لبضاعته، وفي دراسة عملتها على مدينة الخبر لقياس مدى تحقق ارصفة مدينة الخبر لمعايير المدينة الخضراء وجدت أن مدينة الخبر تبعد بنسبة 78% عن المستوى المثالي وهو مؤشر خطير جدا ومخيف!

 عابر ضاق به الرصيف فسلك الشارع معرضاً نفسه للخطروطالب الصايل بإعادة النظر في المعايير المستخدمة للأرصفة وقال: ينبغي على البلديات تحديث وإعادة النظر في المعايير المستخدمة، وطرح حلول من ناحية تشريعية مرنة لا تمنع الباعة من استخدام الارصفة، وإنما تهيئ لهم المكان المناسب الذي لا يعيق وظيفة الرصيف. وأضاف: « الأمر نفسه مع السكان، حيث ينبغي تنظيم التصرفات البشرية أمام المنازل بما يسمح للسكان من التفاعل مع الفراغ الشبه عام والتميز الذاتي دون التدخل في حق المشاة». وأوضح أن من الحلول الهندسية وضع مناطق جلوس مطابقة لسيناريوهات الحركة لجميع الفئات السنية، فكبير السن مثلاً، لا يستطيع أن يمشي أكثر من 150 م دون أن يستريح. وزاد «من الحلول الهندسية استخدام العوامل البصرية للفراغ فهناك ما يسمى بالفصل الفراغي والتدرج البصري والتتابع الفراغي وكلها تساهم في تغيير الحالة النفسية للمشاة وعدم الشعور بالملل وجعل من رياضة المشي عادة جميلة وممتعة، وتصبح هذه المفاهيم أكثر أهمية نسبة للعوامل المناخية التي تتميز بها المنطقة الشرقية» وأضاف، أن من الحلول أيضاً،  استخدام العلامات البصرية الأرضية واللوحات الإرشادية، لتوجيه المشاة وتنظيم حركتهم، ويراعى عدم الإكثار من ذلك لمنع تشتت المشاة وتضييق المساحة الخاصة بهم. واقترح الصايل استثمار البلديات في بعض عناصر فرش الأرصفة، كاستغلال الكراسي لتسويق العلامات التجارية، ويعود ريع هذا الاستثمار في صيانة الأرصفة وتحسينها،  ومن الممكن أيضاً استخدام مفهوم الإدارة المحلية لإدارة هذا الاستثمار من قبل سكان الحي نفسه. وقال: «هكذا نستطيع تنظيم مدن صديقة للمشاة مشجعة على التنقل والسير والتقليل من استخدام وسائل المواصلات الخاصة داخل الأحياء السكنية».ومن جانبه ذكر الدكتور محمد العيسى رئيس القسم التخطيط الحضرية والإقليمي سابقاً،  بكلية العمارة والتخطيط في جامعة الدمام،  أن الإشكالية في أرصفتنا ليست في التصاميم الهندسية، ولكن الإشكالية تكمن في توظيف الأرصفة وتطويرها .. وقال أيضاً : إذا قررنا تطوير منظومة متكاملة لحركة المشاة في مدننا، عندها سنهتم في تطوير وتوظيف وحماية الأرصفة، وأضاف : المنتج النهائي لأهم حواضرنا، ومدننا اليوم نسيجها الحضري لا يلائم متطلبات الحياة الطبيعية للإنسان،  فمدننا بمخططاتها وطرقها، وأرصفتها،  لم تصمم على أساس معايير بشرية،  بل صممت على معايير صناعية تلائم السيارة كوسيلة للحركة،  ولا تلائم المشي كوسيلة طبيعية بديلة، فبالتالي أصبحت مدننا موبوءة بالمركبات والسيارات كأداة للحركة،  تزاحم حركة المشاة إلى درجة الاختناق . وطالب العيسى بتطوير مدننا كمنظومة متكاملة، حيث قال : الإنسان لا يشعر بالأمان فضلاً عن الراحة في الطرقات، كما أنه يشعر بالضالة في مدننا أمام وحشة حركة السير بمركباته، وحجم حركته في الطرقات . إذاً مدننا مريضة بمرض نسميه الفقر الآدمي، وهي تنبض بالحياة، وذلك بسبب غرف الإنعاش الصناعية. ولهذا أدعو إلى أن نرتقي بمدننا ونعود بها إلا أن تكون كائناً حياً بمكوناته البشرية بدل أن تكون كائناً مريضاً يعيش على المكونات والمنعشات الصناعية ، فهو حق طبيعي للإنسان ، كما أن له آثاراً إيجابية للتقليل من الاعتماد على السيارات والمركبات كوسيلة غالبة للحركة، وبالتالي التخفيف من الآثار السلبية للحركة المرورية من حوادث سير وتلوث بيئي، كما أن الأرصفة لا يستفاد منها في وظيفتها الأساسية، فمسمى الرصيف الأصلي هو ( ممر المشاة )، ولكن للأسف انتهكت حرمة هذا القسم من الطريق وأصبح مباحاً لأغراض ووظائف خاطئة. ويرى أيضاً أن العمل على توفير منظومة متكاملة كافية وجاذبة من مواقف للسيارات مرتبطة بأرصفة المشاة، وتطوير أرصفة المشاة بمواصفات راقية توفر الراحة والسلامة للمشاة، يعيد للرصيف مكانته ووظيفته التي سُلبت منه، وكذلك توفير ممرات للمشاة تحدد أماكن مرورهم، وتضمن فصلهم عن حركة مرور السيارات ، وتفعيل الأنظمة المرورية لحركة المشاة تعزز البنية التحتية للأرصفة.مدننا اليوم نسيجها الحضري لا يلائم متطلبات الحياة الطبيعية للإنسان،  فمدننا بمخططاتها وطرقها، وأرصفتها،  لم تصمم على أساس معايير بشرية،  بل صممت على معايير صناعية تلائم السيارة كوسيلة للحركةواقترح العيسى بعض الأفكار التي من شأنها إلى أنه لا بد أن نبدأ في إنشاء مناطق خاصة للمشاة في المدن، وذلك بتحويل أجزاء كبيرة من الشوارع التجارية أو أجزاء من المدن القائمة مثل مناطق التسوق إلى مناطق تسوق مفتوحة للمشاة ـ وتوفير وسائل الراحة اللازمة والجاذبة مع توفير مواقف كافية لدعم تلك المناطق . وفي السياق ذاته ذكر الدكتور معتز محمود طرشان عضو هيئة التدريس في قسم التخطيط الحضرى والإقليمي بجامعة الدمام،  أن الدراسات العلمية أثبتت أن الإنسان البالغ يقضي ما بين ساعتين إلى ثلاث ساعات يومياً فى التنقل فى المدن المتوسطة الحجم، ولذلك اهتم علماء التخطيط بدراسة تخطيط وتصميم الشوارع، لتوفير بيئة مناسبة للتنقل. أي أن الإنسان يقضى معظم أوقات حياته متنقلاً ليمارس الأنشطة الحياتية اليومية.وعلى الرغم من الطفرة التقنية فى وسائل النقل إلا أن وسائل النقل الميكانيكية تعتبر من أكثر المؤثرات غير المستدامة على البيئة المحيطة. وبناءً عليه يتوجه الفكر العالمى نحو تحفيز سياسات وتطبيقات المشاة كوسيلة صحية ومستدامة للتنقل.ومن هنا تنبثق أهمية الأرصفة وممرات المشاة فى المدن والتجمعات العمرانية. وتمثل الأرصفة والممرات بيئة حضرية تفاعلية يتفاعل فيها الإنسان مع البيئة المحيطة. وبالإضافة الى الدور الوظيفي تقوم الأرصفة بتوفير بيئة اجتماعية للمشاة،  كما تساهم فى نشر السلوكيات الحضرية بالمدينة.  وقد كانت المدن العربية سباقة فى فهم وتطوير الأرصفة والممرات على مر الزمان من خلال توفير أنشطة مختلفة تُثري عملية التنقل للمشاة. وفيما يخص الأرصفة الذكية قال طرشان: عالمياً وتواكباً مع الطفرة التكنولوجية والمعلوماتية بدأ ظهور مصطلح الأرصفة الذكية فى اسبانيا. حيث توفر هذه الأرصفة بيئة افتراضية تتفاعل مع المستخدم من خلال تطبيقات مختلفة تتيح للمستخدم استخدام الخدمات عبر الهواتف المحمولة أو الحاسبات اللوحي، لتشجيعه على إعادة استخدام هذه الممرات الأرصفة مرة أخرى. محلياً أكدت خطة التنمية التاسعة بالمملكة العربية السعودية على أهمية تطوير سياسات وتطبيقات تساهم في توفير بيئة صحية للمشاة كوسيلة لتحقيق استدامة التنقل فى المدن.  وذلك من خلال دراسة أهم المحفزات الطبيعية التى تساعد على نشر ثقافة المشي بين أعضاء المجتمع.  وتواجه الأرصفة والممرات بالمملكة عدة تحديات لتوفير بيئة تشجيعية للمشاة،  لعل أبرزها العوامل المناخية وارتفاع درجات الحرارة فى الصيف.كما تمثل التحديات الحالية والمتطلبات المستقبلية الحياتية محاور العمل الأساسية للمتخصصين بمجال تخطيط المدن لتحقيق بيئة مستدامة لأجيال الحاضر والمستقبل.ويقول سلطان الشتيوي،  أحد طلاب كلية الهندسة بجامعة الدمام: إنه من المؤسف جدًا شيوع وانتشار الأرصفة العامة في الشوارع الرئيسية والفرعية بشكل مخالف للمعايير والاشتراطات الهندسية، بل زاد الأمر سوءاً حتى أصبحنا نرى الأرصفة غير ملائمة للمشي بسبب ضيقها أو سوء تصميمها للبشر الأصحاء فضلاً عمن هم من ذوي الاحتياجات الخاصة،  فمن خلال مشاهداتنا لبعض الأرصفة نجدها بعرض لا يزيد عن نصف متر في بعض الأحياء، حيث لا تصل للحد الأدنى من عرض الرصيف،  كما لا نجد الميول الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة في عدد منها وكأن الرصيف خدمة لا تشملهم،  بل تاركين إياهم يتعرضون للأذى على حافة الطرق، والأمر لم يتوقف عند ذلك بل إن الأرصفة في بعض الأحياء القديمة تم تحويلها لمواقف لتحل مشكلة ازدحام الشوارع وللأسف تم حلها بخلق مشكلة أخرى،  حيث يعاني السكان حين تنقلهم من خلال الأرصفة الضيقة لقضاء احتياجاتهم اليومية معاناة بالغة تزداد تلك المعاناة عند النظر لحالة بعض الأرصفة جراء سوء الصيانة المقدمة لها، فضلاً عن رداءة بعض أنواع البلاط المستخدم وضعف بنيته، حيث يكون سهل الكسر، مما يعرض المارة للسقوط والتأذي، ليصبح الرصيف منطقة خطرة على روادها. وأضاف الشتيوي: نتمنى بأن يكون الواقع أجمل مما هو عليه الآن،  فالعالم من حولنا يولي للأرصفة اهتماما كبيرا،  فنجدها واسعة،  وبها مسارات للمشي، وللدراجات الهوائية، يراعى فيها التشجير المناسب والإضاءة المناسبة والعلامات والتنبيهات المرورية،  كما نجد فيها ميولا مناسبا لذوي الاحتياجات الخاصة،  بل تم تجاوز ذلك لتطل علينا أسبانيا بتجربة جديدة بمسمى (الأرصفة الذكية)،حيث تزوّد الأرصفة بخدمات عديدة منها الواي فاي والبلوتوث  .

 حيوية المدن تبدأ من أرصفتهالأننا بشر فإننا نحتاج للمشي، والمشي، أو التنقل بكرسي متحرك في الهواء الطلق، نشاط إنساني بسيط وممتع وله فوائد جمة على أجسادنا وأرواحنا وبيئتنا. فبمجرد أن تزيد جرعة المشي عند المجتمعات، يزيد معها النشاط البدني والصفاء العقلي ويقل معها معدل استهلاك السيارات ذات التأثير السلبي على البيئة. غير أننا نجد أن المشي قد تأثر كثيراً في المملكة، كما في غيرها من بلدان العالم، مع منافسة وسائل النقل الحديثة وعدم وجود بيئات متكاملة آمنة ومريحة تحفز على المشي واستخدام الأرصفة داخل المدن والأحياء السكنية. وقد أدركت الحضارات السابقة أهمية الشعور بالراحة والآمان للمشاة فظهرت أرصفة المشاة في الحضارة الرومانية في المناطق المأهولة بالسكان. ففي مدينة بومبي التاريخية في إيطاليا والتي ترجع إلى ما قبل الميلاد والتي دفنت عام ٧٩م تحت رماد بركان جبل فيسوف الشهير، توجد إلى الآن بقايا أرصفة للمشاة على جانبي الطريق مرتفعة قليلاً عن المسار الأوسط الذي بينهما والذي كان في الغالب مخصصاً للخيول و العربات. أما في المملكة، فإلى عهد قريب، وكما يخبر والدي مسترجعاً ذكريات طفولته في مكة المكرمة، أن الحواري والأزقة كانت بلا أرصفة مخصصة للمشاة. وبعد ذلك ومع دخول السيارات في مرحلة لاحقة، بُنيت بعض الأرصفة في الشوارع الرئيسية فقط، وربما ينطبق هذا على كل مدن المملكة في ذلك الوقت. ومن ثم جاءت الطفرة العمرانية الأولى وأصبح الرصيف جزءًا من أغلب الشوارع. ولكن يبقى السؤال، هل بُنيت أرصفتنا كجزء من بيئة مناسبة للمشاة في مدن المملكة وأحيائها السكنية مع كل ما نشاهده من تطور في العمران والشوارع؟ وما مدى نجاح ذلك في ايجاد مجتمعات تمشي؟  لا يوجد أدنى شك في أن وجود بيئة مشاة متكاملة في المدن والأحياء السكنية يدل على ارتقاء مستوى التخطيط والتصميم الحضري في تلك المدن. لأن ايجاد بيئة للمشاة لا يعني فقط بناء الأرصفة على جانبي الطريق ووضع اللوحات الإرشادية، بل هو في الحقيقة نظام متكامل يعتمد نجاحه على فهم الصورة الكبيرة ومعها أدق التفاصيل، أي من مرحلة تخطيط وبناء المدينة أو الحي السكني مروراً بالظروف المناخية والاجتماعية إلى اختيار نوعية مواد البناء التي يمشي عليها الإنسان.الصورة تختلف كثيراً عما في داخل المجمعات السكنية المغلقة (سواءً التابعة لجهات حكومية أو خاصة) والتي نجد أنها نجحت إلى حد ما بتوفير مثل هذه البيئات المناسبة للمشيإن الحياة تدب في مراكز المدن والشوارع والأحياء السكنية عندما يكثر فيها المشاة. ومنظر المشاة مألوف ويكاد لا ينقطع في جميع مدن العالم تقريباً وفي مختلف الأجواء المتدرجة من شديدة الحرارة إلى متناهية البرودة. فإذا توفرت البيئة المناسبة للمشاة واستطاعت توفير الراحة والأمان لهم، ازدادت عندها نسبة المشاة. هناك ثمة خلل واضح في توفير تلك البيئة الجاذبة والمحفزة على المشي داخل أحيائنا السكنية أو حتى شوارعنا التجارية والتي تخضع في تنظيمها للمؤسسات العامة في الدولة. وكمثال لتقريب الصورة، لنفترض أن شخصاً ما يقطن أحد الأحياء السكنية العامة في احدى مدن المملكة ويرغب بالذهاب إلى مسجد الحي لأداء الصلاة، هل نتصور أن هذا الشخص سيمشي على رصيف متصل يحتوي على أماكن واضحة وآمنة لعبور الشوارع حتى يصل إلى مسجد الحي، أم أنه سيمشي فوق الشوارع المخصصة للسيارات لأن أرصفة الحي غير متصلة وموحدة بل وبها كثير من العوائق كالأشجار المزروعة من أصحاب البيوت كما اتفق، ناهيك عن السيارات المستعرضة فوق الرصيف؟ وهل وجود الأسوار الشاهقة حول بيوتنا يجعل شوارعنا ذات طابع انساني محفز على المشي؟  وحتى أرصفة الشوارع العامة والتجارية تفتقد وجود رصيف آمن و مستوٍ، ذي عرض واحد وارتفاع واحد ومادة بناء واحدة، ومزالق للكراسي المتحركة أو عربات الأطفال. إن هذه الصورة تختلف كثيراً عما في داخل المجمعات السكنية المغلقة (سواءً التابعة لجهات حكومية أو خاصة) والتي نجد أنها نجحت إلى حد ما بتوفير مثل هذه البيئات المناسبة للمشي، فقاطنوها يجوبون الحي طولاً وعرضاً، ويشعرون وأطفالهم بالأمان والراحة. إذن عدم الإقبال على المشي بشكل عام لم ولن يكون بحجة أن أجواءنا حارة جداً- وهي إن كانت كذلك- فهي ليست في أغلب أوقات السنة، بل بسبب عدم الشعور بالراحة والأمان أثناء المشي. وتحقيق معنى الراحة والأمان للمشاة يتطلب مستوى راقيا جداً من التخطيط والتصميم والإبداع. إن العديد من الأمانات في المدن المختلفة عكفت في السنوات الأخيرة على تطوير كيلومترات عديدة من أرصفة المشاة في الشوارع العامة، غير أننا ما زلنا نلاحظ أنها تفتقر للمشاة بشكل كبير، عدا بعض المناطق القليلة التي ربما اكتسبت سمعتها كمكان مستحسن للمشي من قبل أن يشملها التطوير، والذي بكل تأكيد زاد من جاذبيتها مثل الواجهات البحرية في الخبر والدمام، ومثل ممشى الزهور في الرياض وغيرها من الأماكن. ليس الغرض من هذه السطور تسليط الضوء على الأخطاء في بناء الأرصفة العامة وطرق ايجاد البيئات المحفزة على المشي، فقد لا يتسع مقال واحد لمناقشتها، ولكن يجب أن نعلم أن البشر بطبيعتهم يريدون العيش في مجتمعات وأماكن يشعرون فيها بالراحة والأمان ليزدهروا اجتماعياً وصحياً وفكرياً. ولما كان المشي من أبسط المناشط المحببة للإنسان، فإن الامتناع عنه داخل مدننا وأحيائنا سيكون بسبب عدم الشعور بالراحة والأمان والمتعة المرجوة من المشي. وهذا بكل تأكيد يحتاج إلى وقفة تأمل وإعادة تقييم شامل لكيفية تخطيط تلك المدن والأحياء على أرقى المعايير العالمية لبيئة المشاة وخاصة عند طرح المخططات السكنية الجديدة التي يسهل التحكم بتخطيطها وتنفيذها قبل اعتمادها من الجهات المعنية.رئيس قسم العمارة بجامعة الملك فهد

تكتمل الصورة احياناً فيحلو السير على الأرصفة وتصبح المدن أجمل

فسيولوجية الرصيف.. ودبيب «الهوملس»عندما نتحدث عن النفس فاعلم أن هناك حديثًا ذا شجونٍ سيمرّ بنا، وكمًّا وافرًا من النقاش سيجتاح حديثنا، وإن كان في شيء قد نرى أنه لا يستحق أن نلقي عليه الضوء من جانب نفسي كأرصفة الطرقات مثلًا، فقد يلحظ القارئ الكريم ملحظًاً بديهيًا أننا سنتحدث عن كل ما يتعلق بجماله وتنسيقه وألوانه ولا شك أن هذا الجانب مهم، فالانطباع الأولي يولد لدى الإنسان استعداداً باطنياً حول تقبّل الشيء منذ بدايته، وقد يعتمل في ذهن الزائر ما يسمى في علم النفس بتعميم مصدر الخبرة على بقية الأشياء، وإن كان هذا الشيء مجرد تحصيل حاصل لا سيما إذا كانت طريقة تصميمه خارجة عن صندوق تفكير من يطأ هذا الرصيف لأول وهلة، فحين تتأمل الأرصفة حول العالم ستجدها عالمًا آخر انضوت تحتها عوامل ثقافية عدّة وتقاليد مجتمعية تمسّكت بها بشدّة، علما بأنها تكونت بدون جينات وراثية ناهيك عن صحتها أو خطئها . سنتحدث على سبيل المثال أن المشي يُعد جانبا صحيا ونفسيًا مهما في استيراد اللياقة الصحية وتحريك الدورة الدموية، وكذلك في إنقاص الوزن وفي إحداث التوازن النفسي وتفريغ الشحنات السالبة التي تعصف بالإنسان في بعض الأزمات النفسية الطارئة، وبلا شك تعتبر الثقافة جزءا لا يتجزأ لاستحداث نشاط مهم كالمشي مثلاً، حينها تستأصل ثقافة المشي الجميلة فكرة ما يسمى  بـ(الهوم لس) مفترشي الأرصفة الذين توارثوا هذا السلوك من آبائهم أو ممن حولهم وكانوا على آثارهم مقتدون، حيث خلّف لنا هذا النوع من التعلم آثارًا سيئة حالت دون التقدم الثقافي والفكري راحت ضحيتها نسب مهولة مما يسمى بأطفال الشوارع في العالم الذين يعيشون خارج الأسرة والمجتمع المدرسي بعمر أقل من 18 سنة، فتعتبر هذه الفئة من الأطفال من أخطر مشاكل الحياة الاجتماعية الحديثة لأنهم رجال المستقبل، وبالتالي سيكونون عرضة للانحراف فيصبحون قنابل موقوتة تهدد الأمن القومي، سؤالي لماذا ينطلق هذا النوع من المشاكل من الأرصفة؟! الأرصفة أرقى من ذلك بكثير.يبدو أن جميع تساؤلاتي ستجدها في رصيف هذا المقال فأقول: ما أجملك أيها الرصيف، فمنك ينبثق الأمان والجمال، وفيك تدب الحياة ويحيا اللقاء وتشرئب النفسأتذكر عندما كنت في بريطانيا فعندما كنت أجوب شوارعها وضواحيها ومدنها من الشمال إلى الجنوب لفت نظري شيءٌ جميل عندما كان الرصيف يساهم مع المجتمع في مساعدة الأعمى والكفيف، يا ترى كيف ذلك؟!  جعل صناع القرار هناك جزءًا من الرصيف فيه آثار يتحسسها معاق البصر بقدمه أثناء مشيه عليها ليشعره بمكانه المخصص للمشي أو لتنبيهه بالاقتراب من عبور الطريق، هنا يعيش هذا الإنسان مطمئنًا آمنًا محبًا لمجتمعه ووطنه، كيف لا ومن حوله لم يهمشوه ولم يتجاهلوه؟ فما هي الوسيلة التي جعلت الحب والسلام يسود هذا الإنسان المعاق هل تتصور أن من الرصيف نحقق الفرق بين العدل والمساواة؟ العدل أن يطأ هذا الرصيف الصحيح والسقيم لكن المساواة كيف يستفيد الجميع منه بشكل متساوٍ في المميزات؟! ففي الحياة المدنية الحديثة المعاصرة يصبح الرصيف مأوى لتلاقح الثقافات المختلفة وتمازج الحضارات ببعضها بغض النظر عن نوع هذه الثقافات والحضارات، فهو وسيلة للتعارف والتآلف ووسيلة للالتقاء والتكافل والتناغم القيمي السائد لكل مجتمع، لذلك هو منطقة للمشاة والالتقاء الآدمي فحسب لا لرعونة من ضاقت عليهم الطرق بزحام السيارات والدراجات! ولهذا يشعر عابر الطريق للجهة الأخرى منه بالأمان والهدوء والاستقرار حين يحتضنه الرصيف المقابل، هنا نستنبط من ذلك أن الرصيف محطة دفء وأمان على طرفي الطريق الذي هو بمثابة القنطرة الشائكة والمحملة بأخطار العجلات والحديد. قالوا في علم نفس الجريمة إن المجرم لا يطيق اللون الرمادي حين يحيط به لعدة أيام، حيث يجلب له التوتر والقلق الذي يستظهر ما لديه من جنايات وسوابق غير معلومة، وبذلك يسمى هذا اللون بلون المكتئبين، فعلى إثر ذلك ترى بعض الثقافات المجتمعية وهم لا يشعرون جعلت من الأرصفة حلًا بديلًا عن السجون وغرف التحقيق الجنائي حين تجده رصيفًا باليًا هيأته الظروف ليستقبل مستنقعات المياه بكل جدارة، ناهيك عن لونه الذي تلاشى مع عوامل التعرية أو حطمته أيدي السائقين أو العابثين، فلونه الاكتئاب وشكله الإحباط،  فيكفي للمحقق أن يجلس مع المجرم جلسة واحدة على نواحي الرصيف ليقضي مهمته على الوجه الأكمل، وما علموا أن الأرصفة واجهة حضارية راقية بين دفتيها معانٍ إنسانية سامية! تصور معي أين سيضع المسافر قدمه حين ينزل من الطائرة متجهًا لمبنى المطار؟ أليس هو الرصيف، وهل سيركب المترو بلا رصيف؟ هل سيحلُّ على الديار نازلًا من على متن القطار على قارعة الطريق مباشرة؟ أم سينادي في اللاشعور أين أنت أيها الرصيف؟ وهل سيستقلُّ سيارة الأجرة من غير رصيف؟ لا نتصور أبدا أن نعيش بدونه لو تأملناه، لذا نحن عندما نسافر من شرق الأرض سنمتطي الرصيف، وحين نصل إلى غربها سنستقلّ الرصيف وكذا في شمالها وجنوبها، فإن كان للطفل أم ترضعه وللمبدع رعاية وبرامج ترعاه وللمعاق تربية خاصة تربيه وتهتم به، ولليتيم دار رعاية يستظل بها؛ فالرصيف هو الحاضن الوديع لكل البشر، ويقدم رسالة سلام بغض النظر عن أعراقهم وألوانهم،  مسدداً سهمه ومبدداً للعنصرية بأشكالها خالقاً التوافق والمواءمة للبشر جميعا. يبدو أن جميع تساؤلاتي السابقة ستجدها في رصيف هذا المقال فأقول: ما أجملك أيها الرصيف، فمنك ينبثق الأمان والجمال، وفيك تدب الحياة ويحيى اللقاء وتشرئب النفس. استشاري نفسي  

تشويه الأرصفة والاستيلاء عليها يعكسان انطباعا سلبيا عن المدن

 

الحلقات السابقة 

جرب المشي .. تخسر

جرب المشي .. تخسر «2»

 

حالة الأرصفة تزيد من معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة

دليل تصميم الأرصفة .. هل يلبي طموحنا؟