شيعة مصر.. "مغضوبٌ عليهم" في كل الأنظمة الحاكمة
في تقريرها عن الحرية الدينية في مصر عام 2020، قدرت الحكومة الأميركية نسبة شيعة مصر بـ 1%، أي ما يفوق المليون بقليل.

على عكس ما هو شائع، لم يظهر الشيعة، على الأقل بالمعنى السياسي، في مصر خلال عهد الدولة الفاطمية وإنما قبل ذلك بكثير. تحديدًا سنة 35هـ/656م حين تزعّم وفدً مصريّ تمردًا سعَى للإطاحة بالخليفة عثمان بن عفان. اتّخذت بعض مراحل تلك الحركة التمردية صبغة شيعية أوليّة بعدما دعت الخليفة عثمان للتخلّي عن الخلافة لصالح علي بن أبي طالب، وهو الطلب الذي رفضه الخليفة الثالث بطبيعة الحال.

في هذا الزمن لم يكن مصطلح "شيعة" اتخذ شكله الحالي، وإنما كان يُعبّر عن طائفةٍ من الناس تتخذ قناعات سياسية تتمثّل في وجوب دعم علي بن أبي طالب في تولّي الحُكم بعد الرسول، وهي القناعة التي سيتراكم عليها ميراث فقهي هائل وأحداث سياسية جِسام خلقت في الأخير ما نعرفه اليوم بـ"الشيعة".

بعد مقتل عثمان وتنصيب علي خليفة، وبينما رفضت الشام بقيادة واليها معاوية الدخول في طاعة الخليفة الجديد، انقسمت مصر إلى قسمين؛ شيعة علي وشيعة عثمان وبلغ بينهما الخلاف حدّ التقاتل مرة تلو الأخرى، وعاشت البلاد فترة من الاضطراب مثل سائر الدولة الإسلامية. فتغيّر عليها 3 ولاة مُعيّنين من قِبَل علي، آخرهم محمد بن أبي بكر الذي قتله جيش عمرو بن العاص لعيد البلاد إلى الحظيرة الأموية. وهو الحُكم الذي استقرّ في بلاد النيل عقب مقتل علي وتنازل ابنه الحسن عن الخلافة لمعاوية عام 40هـ/660م.

وفي أواخر أيام الدولة الأموية، ظلّت مصر هدفًا أساسيًا لشيعة آل البيت من طائفتي العلويين والعباسيين الذين لم يكفّوا عن إرسال دعاتهم إليها لتأليب أهلها على الأمويين وحضّهم على تنصيب آل البيت حُكامًا.

 

مصر ملجأً للشيعة من العباسيين

 

عقب قيام الدولة العباسية، وانقلاب أحفاد العباس على أحفاد علي، وتمسّك العلويين بما اعتبروه حقّهم الإلهي في الحُكم عبر السعي لتدبير الثورات الواحدة تلو الأخرى، وخلال ثورة محمد النفس الزكية حفيد الحسن بن علي ضد العباسيين، أوفد أخاه علي بن محمد إلى مصر لنشر الدعوة، وهي المهمة التي حقّق فيها نجاحًا كبيرًا ولاقت دعوته بين أهل مصر رواجًا. على إثر ذلك، منع الوالي العباسي المصريين من الحج خوفًا من دعمهم لثورة حفيد علي التي اشتعلت في المدينة، ولم يُسمح لهم بالحج إلا عقب وأد التمرد ومقتل محمد النفس الزكية.

وبعدما تعرّض العلويون لهزائم متتالية ومذابح على أيدي خصومهم العباسيين، هرب عددٌ منهم من الجزيرة العربية إلى مصر، أبرزهم إدريس -شقيق محمد النفس الزكية- الذي سافر إلى مصر وتستّر فيها حينًا ثم وفد على المغرب وأسّس فيها دولة الأدارسة الشهيرة.

أيضًا، لجأت السيدة نفيسة بنت الحسن مع زوجها إسحق بن جعفر الصادق إلى مصر، وعاشت فيها حتى ماتت ولا يزال قبرها من أشهر المزارات الدينية في القاهرة.

وبسبب ابتعاد مصر النسبي عن بغداد مركز الخلاف العباسية، عاش الشيعة (أُطلق عليهم حينها العلويون أو الطالبيون) في مصر بأمان لم يخلُ من لحظات تشدّدت فيها الدولة بحقهم، مثلما جرى في عهد الخليفة المتوكل العباسي الذي أمر عامله على مصر بإخراج الشيعة منها فطردهم (من مختلف مناطق مصر) إلى الفسطاط (عاصمة مصر الإسلامية) ثم إلى العراق ومنها إلى المدينة عام 236هـ/850م.

وكذلك في عهد الخليفة المنتصر العباسي الذي أمر واليه في مصر بـ"ألا يسمح لعلوي بركوب فرس، ولا امتلاك أكثر من عبد، وأنه إذا اختصم إليه أحد الطالبيين وفردٌ من عوام الناس يُرفض قول الطالبي ويُقبل قول خصمه دون أن يُطالَب ببينة"!.

يقول أحمد شوقي أستاذ التاريخ الإسلامي في بحثه "الشيعة في مصر حتى قيام الدولة العباسية": "على الرغم مما تعرّض له العلويون في مصر من أذى وامتهان، إلا أن اضطراب أحوال الخلافة العباسية منذ منتصف القرن الثالث للهجرة (التاسع ميلاديًا)، أدّى إلى خلل الأحوال في الأقاليم، الأمر الذي أتاح الفرصة للعلويين في مصر لرفع رؤوسهم ضد الخلافة العباسية".

ورغم كل هذه الجهود، فإن الشيعة أو الموالين لحُكم آل علي لم يُصبحوا أغلبية في مصر أبدًا، ولم يتمكّنوا من نشر مذهبهم الشيعي بين المصريين، وهو الوضع الذي سيتغيّر قليلاً مع قيام الدولة الفاطمية بمصر.

 

في العهد الفاطمي.. دولة للشيعة أخيرًا

 

في عام 358هـ/969م، دخل القائد العسكري الفاطمي جوهر الصقلي الفاطمي مصر معلنًا إنهاء الدولة الإخشيدية وإقامة الدولة الفاطمية الشيعية، التي باتت خلافة إسلامية ثانية تُضارع خلافة بغداد بعدما انتقل المعز لدين الله من أفريقية إلى مصر عام 362هـ\973م.

حين وفد الفاطميون على مصر كانت ذات أغلبية سُنية، وهو الأمر الذي لم يُشكل مشكلة كبرى للحكام أصحاب المذهب الإسماعيلي، بعدما عرفت دولتهم تسامحًا -في أغلب الأحوال- مع المذاهب السُنية، وإن دشّنوا برامج دعوية ضخمة لنشر التشيع بين صفوف الناس، وهو الهدف الذي لم يتحقق أبدًا رغم طول عُمر دولتهم التي استمرّت قرابة قرنين من الزمان.

وفي نهاية الأمر، زالت الدولة الفاطمية دون أن تحوِّل المصريين إلى شيعة. لكنها أكسبت تدينهم هوى شيعيًا ملحوظًا تمثّل في التعلّق بأضرحة آل البيت والمبالغة في الاحتفال بالمناسبات الدينية في شهر رمضان (ليس الجانب التعبدي) ومولد النبي ورأس السنة الهجرية، وهي أمور لا تزال بعض طوائف أهل السنة تحرّمها حتى الآن.

 

كيف يعيش شيعة مصر الآن؟

 

في غياب الأرقام الرسمية يصعب تحديد أعداد الشيعة في مصر، وهو ما يجعلنا نكتفي بالأعداد -غير الموثقة- التي تصدر عن قيادات شيعية مصرية. في سبتمبر 2012م صرّح القيادي الشيعي بهاء أنور بأن عدد الشيعة في مصر يبلغ 3 ملايين فرد، بينما اكتفى محمد الدريني الأمين العام للمجلس الأعلى لآل البيت بأنهم مليون فردٍ فقط، فيما قدّر تقرير حقوقي صادر عن الحكومة الأميركية عام 2006م أعدادهم بأنها في حدود 1% من السكان، أي مل يقرب من 760 ألف مواطن.

وفي تقريرها الصادر العام الماضي عن الحرية الدينية في مصر عام 2020م، حافظت الحكومة الأميركية على نسبة الـ1% كعددٍ محتمل لشيعة مصر (عدد السكان في ذلك العام بلغ 102.3 مليون نسمة)، ما يعني أن حجم شيعة مصر فاق المليون بقليل.

ورغم التباين الملحوظ في هذه الأرقام إلا أنها تُعطينا مؤشرًا على أن شيعة مصر يُشكلون حيزًا معقولاً من المجتمع المصري، وهو ما لا ينسجم مع حجم التهميش الذي تتعرّض له الطائفة المحرومة من التمثيل السياسي والاجتماعي وحتى الديني.

من أشهر محاولات شيعة مصر تدشين "كيان اجتماعي" هي تأسيس "جمعية آل البيت" عام 1973، في ظل حُكم الشاه صديق السادات، لكن أوقِف نشاطها عام 1981 بعد وقوع الثورة الإيرانية.

يقول الباحث أحمد زغلول شلاطة، في دراسته "الانتشار في بيئة مُعاكسة: مقاربة ميدانية لواقع الشيعة في مصر"، إن فكرة إنشاء كيان شيعي موحّد تكاد تكون غير موجودة في عقول شيعة مصر. فنشاطهم كله ينزع إلى الفردية يتّضح من خلاله اختلاف أصحابه في كيفية تشكيل تنظيم يُجمّع ويحرّك شيعة مصر. ولم تتم في السنوات الفائتة أي محاولة جادة في هذا الصدد إلا مرتين؛ الأولى عام 1989م والثانية 1996م. وفي كلا الحالتين ضبطت أجهزة الأمن المصرية أصحابها وسُجنوا لعدة أشهر بتهم تتعلّق بتكوين تنظيم سرّي يهدف إلى الإضرار بمصالح الدولة العليا.

ومن أشهر المحاولات التي حاول فيها شيعة مصر تدشين "كيان اجتماعي" لهم هي تأسيس "جمعية آل البيت" عام 1973م –في ظل حُكم الشاه صديق السادات- وأوقِف نشاطها عام 1981م لدواعٍ أمنية بعد وقوع الثورة الإيرانية وتدهور علاقة مصر بنظام الخميني. بعدها تأسست أول دار نشر شيعية في مصر، هي دار "البداية" عام 1986م إلا أن مطبوعاتها تسبّبت في صدامات مع الأمن والسلفيين فجرى إغلاقها أيضًا.

عقب ثورة يناير انفتحت أبواب الحرية على مصراعيها أمام الجميع، وسمحت السُلطات المصرية للشيعة بتشكيل جمعيات أهلية بلغ عددها 27 جمعية حملت كلها أسماء علوية قحة، مثل: الزهراء، الثقلين، أحباب العترة المحمدية...إلخ. لعبت هذه الجمعيات دورًا في المطالبة بالاعتراف بالمذهب الشيعي كمذهب رسمي يتم التعبُّد به في مصر، والسماح بإقامة "حسينيات"، ومساجد خاصة بالشيعة.

عقب الثورة أيضًا، أعلن عدد من رموز الشيعة نيتهم تشكيل كيانات سياسية. فأعلن الناشط الشيعي محمد الدريني تأسيس "حزب الغدير"، وهو الحلم الذي يسعى الدريني لتحقيقه منذ عام 2005م، كما أعلن المفكر الشيعي أحمد راسم النفيس تأسيس "حزب التحرير"، إلا أن جميع هذه التجارب لم ترَ النور حتى الآن.

لكن كل هذه الجهود بقيت هامشية في ظِل حالة الاستقطاب التي نجح السلفيون في جرِّ الهوى الديني المصري إليها تجاه كل ما هو شيعي؛ فالأزهر يتبنّى موقفًا متصلبًّا يتلخّص في اعتباره أن أي تواجد شيعي في مصر هو "اختراق إيراني" مُهدِّد للأمن القومي للبلاد.

داومت وسائل إعلامية مصرية على تصوير الشيعة أنهم "عملاء لإيران"، وهي وجهة نظر ليست غريبة عن عقيدة الدولة المصرية والتي عبّر عنها الرئيس مبارك يومًا بقوله "إن شيعة العراق ولاءهم لإيران أكبر من بلدهم".

أحد تجليات ذلك الفكر تمثّلت في ديسمبر 2015م حين نظّم الأزهر مسابقة رسمية لبحث "أسباب نشر التشيع في المجتمع السُني"، وهي الخطوة التي أثارت انتقادًا علنيًا من مراجع دينية كبرى في إيران.

وهنا، تتجلّى حجم المفارقة التاريخية التي تعيشها مصر؛ فالأزهر مسجد أنشأه الفاطميون لنشر الفِكر الشيعي بين المصريين، لكنه عقب زوال دولتهم أصبح أكبر مؤسسة دينية سُنية في العالم، وسببا رئيسيا في إيقاف المدّ الشيعي بمصر طيلة السنوات الفائتة.

وبعيدًا عن الأزهر ظلَّ هاجس "الاختراق الإيراني" لمصر عبر التشيُّع يؤرق مضاجع الكثيرين. ففي 2018م أثار الإعلامي المصري مصطفى بكري عاصفةً من الجدل بعدما أكّد في برنامجٍ تليفزيوني أن شخصًا ما صدح بالأذان الشيعي في مسجد الحسين، وهي الخطوة التي وصفها بأنها "اختراق إيراني للبلاد"، ما دفع الحكومة المصرية لإصدار بيان تنفي فيه الواقعة وتؤكد أن "جميع مساجد مصر سُنية"!.

على هامش تلك الواقعة تبارَت قيادات وزارة الأوقاف المصرية في التأكيد على عدم تسامحها أبدًا مع قيام الشيعة بأي صلاة داخل أي مسجد، مثلما صرّح سامح عبد الحميد القيادي السابق في حزب النور بأن السلفيين ينسّقون مع الأمن لرصد أي "صلاة شيعية" في أي مسجد، حيث يُقبض عليهم وتُحرّر بحقّهم محاضر في قسم الشُرطة.

وبخلاف تصريحات بكري داومت وسائل إعلامية مصرية على تصوير الشيعة في مصر أنهم "عملاء لإيران"، وهي وجهة نظر ليست غريبة عن عقيدة الدولة المصرية والتي عبّر عنها الرئيس مبارك يومًا بقوله "إن شيعة العراق ولاءهم لإيران أكبر من بلدهم".

تفاخُر السلفيين بمنعهم المتكرر لأي شيعي بالصلاة داخل المساجد تجلّت معالمه في تقرير للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية التي قالت إنها رصدت قرابة 70 واقعة انتهاك تعرّض لها المسلمون الشيعة في مصر من 25 يناير 2011م وحتى مايو 2016م.

ومن أشهر تلك الوقائع، المؤتمر الرسمي الذي نظمته الدولة المصرية بِاسم التضامن مع سوريا عام 2013م، حيث أهان شيوخ السلفية الشيعة مرارًا وتكرارًا في حضرة رئيس الجمهورية -حينها- محمد مرسي، الذي لم يعترض على تلك الأوصاف طيلة الحدث.

صرّح سامح عبد الحميد القيادي السابق في حزب النور بأن السلفيين ينسّقون مع الأمن لرصد أي "صلاة شيعية" في أي مسجد، حيث يُقبض عليهم وتُحرّر بحقّهم محاضر في قسم الشُرطة.

الموقف الحكومي المصري المعارِض للتشيُّع لم يقتصر فقط على الحرمان من الصلاة أو حتى الإهانات الإعلامية المستمرة، وإنما امتدَّ إلى ما هو أكثر، مثلما جرى في يناير 2012م حين أوقفت وزارة التعليم مدرسًا عن عمله بسبب "معتقده الشيعي" الذي يتضمّن سب الصحابة وأمهات المؤمنين.

وبدايةً من عام 2012م أعلنت الحكومة المصرية رفض السماح للشيعة بتنظيم احتفالات عاشوراء (ذكرى مقتل الإمام الحسين في كربلاء) في مسجد الحسين الكائن بالقاهرة، في خطوة فسّرتها بأن "الطقوس الدينية الشيعية لا أساس لها في الإسلام"، وتكررت محاولات نشطاء شيعة لتدشين احتفالات في عاشوراء خارج المسجد، لكن كان يجري اعتقالهم على الفور.

هذا الحظر المستمر حتى الآن، هو الذي يدفع الدولة لإغلاق المرقد الحسيني بالكامل يوم عاشوراء لوأد أي محاولة شيعية لدخوله في مهدها، والمبرر الدائم لهذه الخطوة هو "القيام بأعمال صيانة".

كما امتدَّ الحظر الشيعي في بعض الأحيان إلى الملاحقات القضائية بناءً على الهوية الدينية، مثلما جرى في مايو 2015م حين ألقي القبض على الزعيم الشيعي الطاهر الهاشمي إثر اتهامه بـ"نشر المذهب الشيعي وتكدير الأمن العام".

أيضًا، منذ قرابة عامين قضت محكمة مصرية بإغلاق كافة المواقع والقنوات التليفزيونية الشيعية في مصر بدعوى "نشرها الفكر المتطرف".

هذا الاستقطاب الطائفي المستمر بحقّ الشيعة لم يحرمهم فقط من حق العبادة واعتناق المذهب الديني الذي يشاؤون وإنما أثمر عن وقوع حوادث مؤسفة اقتحم فيها مجموعات من السُكان بيوتا تستضيف تجمعات شيعية وقتلوا كل مَن فيها، آخرها اقتحام منزل الشيخ حسن شحاتة عام 2013 وقتله مع 3 من أتباعه، وهي الخطوة التي أعربت قيادات سلفية عن سعادتها بوقوعها حينها.

وبحسب تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش، فإن مسجدًا سلفيًا في ذات القرية دأب على تشغيل فيديوهات "مثيرة للكراهية" ضد القيادات الشيعية التي جرى اقتحام منازلها وقتلها سحلاً في الشوارع، ما اعتُبر ذروة القمع الذي تعرض له الشيعة في مصر منذ عقود طويلة.

 

مصادر إضافية

  • "الشيعة في مصر.. خرائط التواجد وموقف الدولة"، عزة هاشم (بحث).
  • "الشيعة في مصر حتى قيام الدولة العباسية"، أحمد شوقي إبراهيم (بحث).
  • "أثر الاتجاه الثقافي بين الشيعة وأهل السنة على النواحي الدينية والاجتماعية في مصر"، مراد خليفة المختار (بحث).
  • "الانتشار في بيئة معاكسة: مقاربة ميدانية لواقع الشيعة في مصر"، أحمد زغلول شلاطة (بحث).
  • "الشيعة في مصر، جاسم عثمان مرغي" (كتاب).
  • "الشيعة في مصر من الإمام علي حتى الإمام الخميني"، صالح الورداني (كتاب).

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

تقول التقديرات إن ٤٠٠ ألف مسيحي فقط ما يزالون في العراق من أصل 1.5 مليون شخص.
تقول التقديرات إن 400 ألف مسيحي فقط ما يزالون في العراق من أصل 1.5 مليون شخص.

وافقت الجمعية الوطنية الفرنسية على مشروع قانون يطالب الحكومة باعتبار المذابح التي ارتكبتها الدولة العثمانية بين عامي 1915 و1918م ضد الآشوريين الكلدانيين إبادة جماعية. من هم الآشوريون؟ وما هي المذابح العثمانية التي وقعت ضدهم؟ وما هي الرواية التركية عن تلك المذابح؟

 

من هم الآشوريون؟

يُعرَف الآشوريون باعتبارهم إحدى الأقليات العرقية المتواجدة في منطقة الشرق الأوسط، والتي يعيش أبناؤها في شكل جماعات متناثرة في دول تركيا والعراق وسوريا ولبنان وإيران، فيما يجمع بينهم الحديث باللغة الآرامية، واعتناق الدين المسيحي.

ارتبط الآشوريون بالدين المسيحي منذ فترة مبكرة. ففي القرن الخامس الميلادي تم تأسيس كنيسة المشرق، ولاقت انتشاراً كبيراً في الأوساط الآشورية، حتى عُرفت باسم الكنيسة الآشورية.

تأثرت تلك الكنيسة بأفكار وآراء نسطوريوس، بطريرك القسطنطينية فيما يخص طبيعة المسيح. وظلت -أي الكنيسة- موحدة في ظل تلك الأفكار حتى القرن السادس عشر الميلادي.

وفي سنة 1552م، قدم رسل الفاتيكان لنشر الكاثوليكية في العراق، ونجحوا في نشر مذهبهم فيما يدعى اليوم بسهل نينوى، فيما حالت صعوبة المواصلات في تلك الفترة دون نشر أفكارهم في المناطق الجبلية الوعرة.

تسبب ذلك في اعتناق أهل السهول للكاثوليكية، وعرفوا باسم الكلدان/ البابليين، فيما بقي أهل الجبال على مذهبهم القديم، وعُرفوا باسم الآشوريين، وبقيت كنيستهم ذات حضور قوي في كل من إيران والعراق والهند وبعض دول المهجر.

 

سيفو والمذابح العثمانية

يُطلق اسم المذابح الآشورية على سلسلة من العمليات الحربية التي شنتها قوات نظامية للدولة العثمانية بمساعدة بعض المليشيات الكردية المسلحة أثناء الحرب العالمية الأولى. عُرفت تلك المذابح باسم "سيفو"، وهي لفظة سريانية تعني السيف.

يذكر المؤرخون أن أعداد الآشوريين في تلك الفترة وصلت لمليون نسمة، وأنهم امتدوا في المنطقة الواقعة بين أورميا -في إيران الحالية- شرقاً إلى ماردين -في تركيا الحالية- غرباً، وكانوا يمثلون إحدى الأقليات المسيحية المهمة في الإمبراطورية العثمانية.

في سنة 1895م، بدأ الاستهداف العثماني للآشوريين فيما عُرف باسم "المجازر الحميدية".

في تلك المجازر، قُتل مئات الآلاف من الأرمن والآشوريين في مدن جنوب تركيا وخاصة في أدنة وآمد. ومع اندلاع أحداث الحرب العالمية الأولى في سنة 1914م، تجدد الاستهداف العثماني للآشوريين مرة أخرى بسبب تخوف الدولة العثمانية من انضمام الآشوريين للقوات الروسية.

في كتابه "مأساة الآشوريين"، تحدث الكولونيل،  رونالد سيمبير ستافورد، المفتش الإداري البريطاني للواء الموصل، عن تفاصيل تلك الفترة التاريخية الحرجة، ذاكرا أن العثمانيين تواصلوا مع مار شمعون، بطريرك كنيسة المشرق الآشورية، وطلبوا منه عدم الانضمام إلى روسيا في الحرب ضد العثمانيين، وقد وافق البطريرك على هذا الطلب، وأرسل إلى رعاياه ليأمرهم بالخضوع للحكام المحليين.

ولكن لم تمر شهور معدودة، حتى فوجئ الآشوريون باستهدافهم من قِبل كل من القوات العثمانية النظامية، والمليشيات الكردية التي اعتقدت أن الآشوريين منافسون لهم في مناطق تواجدهم.

 أمام تلك التطورات، بدأ الآشوريون حربهم ضد الدولة العثمانية في مايو 1915م، وقد حاول العثمانيون الضغط على مار شمعون لكبح جماح الآشوريين عن طريق القبض على أخيه الذي كان يدرس في إسطنبول في هذا الوقت.

ولمّا رفض البطريرك العرض العثماني تم إعدام شقيق البطريرك، ليعلن مار شمعون عندها الحرب بشكل رسمي.

يسلط الباحث عبد المسيح نعمان قره باشي الضوء على الأحداث التي وقعت في تلك الفترة في كتابه "الدم المسفوك، قائلا إن العثمانيين برروا قرارهم باستهداف الآشوريين والأرمن بأسباب كثيرة أهمها أن المسيحيين مسلحون ويقتنون سلاحاً في بيوتهم وسوف يقاومون الإمبراطورية العثمانية لمساعدة أعدائها من الإنجليز والفرنسيين.

 في هذا السياق، "أرسل العثمانيون قصاداً ينادون في الأسواق قائلين: على كل مسيحي أن يسلم أي نوع من السلاح يملكه، وبدأوا يدخلون البيوت كأنهم يبحثون عن السلاح. واستغلوا الفرصة وبدأوا ينهبون ويسرقون كل ما تقع عيونهم عليه.. وهكذا كانوا يجمعون الشباب والرجال من العشرين سنة إلى الخامسة والأربعين ويقودونهم إلى ساحة الحرب مشاة ودون زوادة أو طعام والشيوخ يسوقونهم إلى السجون والنساء والفتيات الجميلات يراودونهن على أنفسهم ليتزوجوهن، واللواتي رفضن ولم يقبلن ذلك وما أكثرهن. كانوا يقتلونهن بأبشع أنواع العذاب والعهر وبصورة تستنكرها ضواري الغابات ووحوش البرية...".

بشكل عام، تعرض الآشوريون للقتل والتهجير في نواحي متفرقة من حكاري، وديار بكر، وماردين، ونصيبين، والجزيرة الفراتية. فعلى سبيل المثال، يذكر أر. أس. ستافورد في كتابه إن المعاناة الآشورية تفاقمت كثيراً في حكاري -الواقعة في جنوبي تركيا- بعد تأخر المساعدات الروسية التي وعدوا بها.

"كل ما أرسله الروس كان أربعمائة من القوزاق، الذين تعرضوا لكمين غدر وأبادهم الأكراد". في تلك الظروف الصعبة، اضطر الآشوريون لترك قراهم وصعدوا إلى قمم الجبال هرباً من ملاحقة القوات العثمانية، ولكن العثمانيين انتظروا حلول فصل الشتاء، وعرفوا أن الثلوج ستجبر الآشوريين على النزول إلى الوديان. أمام ذلك التحدي قاد البطريرك مار شمعون عشرات الآلاف من أتباعه لرحلة طويلة إلى أروميا. في تلك الرحلة، هلك المئات من الأشوريين كما أن العديد منهم لقي حتفه على يد العثمانيين المترصدين لهم.

لم تنته مأساة الآشوريين رغم انتهاء الحرب العالمية الأولى في سنة 1918م،فقد  عانوا من استهداف الحكومات المتعاقبة على حكم دول المنطقة.، منها على سبيل المثال الحادثة التي وقعت  سنة 1933م عندما وجه رئيس الوزراء العراقي رشيد عالي الكيلاني بعض فرق الجيش لتدمير العشرات من القرى الآشورية المسيحية في الموصل، وذلك على إثر مطالبة الآشوريين بالحكم الذاتي لمناطقهم، فيما عُرف باسم "مذبحة سميل"، وذلك بحسب ما يذكر الكاتب محمد عادل داود في كتابه "تاريخ الدماء".

كذلك، عانى الآشوريون كثيراً في الفترة من 2014- 2017م، وذلك بالتزامن مع سيطرة تنظيم داعش على المناطق الشمالية والغربية من العراق.

تعرض المسيحيون القاطنون في تلك المناطق للعديد من المخاطر، وتم تدمير العشرات من الكنائس والأديرة، كما هُجرت المئات من العائلات المسيحية. وبحسب بعض التقارير لم يبقَ في العراق اليوم سوى 400 ألف مسيحي من أصل 1.5 مليون مسيحي تواجدوا في العراق في سنة 2003م.

 

بين الاعتراف والإنكار

تتباين المواقف الدولية فيما يخص تقييم الأحداث الدامية التي تعرض لها الآشوريون في بدايات القرن العشرين.

من جهتهم، اعتاد الآشوريون  استعادة ذكرى الإبادة الجماعية التي تعرض لها أجدادهم في يوم السابع من شهر أغسطس من كل عام.

على الصعيد الدولي، لم تحظ وقائع تلك المذبحة باهتمام كبير في العقود السابقة، ولكن تغير الوضع -إلى حد ما- في السنوات الأخيرة.

ففي سنة 2007م أصدر المؤتمر الدولي لدارسي الإبادات، وثيقة صوّت عليها بالإجماع تدعو إلى الاعتراف بالمجازر الآشورية، وبعد عام واحد، قرر البرلمان السويدي الاعتراف بالمجازر ضد الآشوريين باعتبارها جرائم إبادة.

وفي أكتوبر 2019، اعترف مجلس النواب الأميركي بالمذابح الجماعية التي ارتكبت بحق الأرمن والسريان الآشوريين من قِبل سلطات الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى.

بعد ذلك، أعلنت عدة دول اعترافها بالمذبحة، ومن بينها  هولندا، وجمهورية التشيك، وتشيلي.

من جهتها، ترفض تركيا الاعتراف بتلك المذابح، وتفسر ما وقع باعتباره حرباً بين القوات العثمانية والمليشيات الآشورية التي اختارت أن تنضم للعدو الروسي.

وتروج تركيا للفكرة القائلة بأن العثمانيين في تلك الفترة لم يمارسوا سيطرة كافية على أراضيهم لمنع حدوث المذابح، سواء أكانت مذابح الأرمن أم المذابح الآشورية.

 لم تكتف أنقرة بإنكار المذابح بشكل رسمي، بل أقرت المادة 301 من قانون العقوبات التركي، والتي نصت على أن "أي شخص يهين علانية الهوية التركية أو الجمهورية أو الجمعية الوطنية التركية الكبرى، يُحكم عليه بالسجن من سنة إلى ثلاث سنوات"، بموجب تلك المادة يتم إدانة أي شخص يعترف بحدوث مذابح في الدولة العثمانية.

وقد جدد الأتراك إنكارهم المذابح الآشورية في الأيام الأخيرة بالتزامن مع صدور قرار الجمعية الوطنية الفرنسية بشأن الاعتراف بالإبادة الآشورية.

وأصدرت وزارة الخارجية التركية بيانا صحفيا حول ذلك القرار. ووصفته بأنه "لاغٍ وباطل". وذكر البيان "إن إدراج الاتهامات -الخاصة بالمذبحة- التي لا أساس لها من الصحة على جدول أعمال الجمعية الوطنية من قِبل نواب الحزب الحاكم هو مثال على الجهود المبذولة لتشويه الأحداث التاريخية من أجل مصالح سياسية".

وأضاف البيان بأن البرلمانات "لا تتمتع بسلطة تفسير التاريخ وإصدار الحكم عليه".