محراب مسجد الأغبري بسمائل 1245هـ.
محراب مسجد الأغبري بسمائل 1245هـ.
ثقافة

المحاريب الجصيَّة سيرة تمتد إلى ثمانية قرون

07 مايو 2022
أضاميم
07 مايو 2022

أمام المحاريب كانت لي وقفات، أدهشتني زخارفها، وأبهرتني تشكيلاتها، والآيات القرآنية المحفورة في طينة الجص: «الصَّاروج العُماني»، بحس فني رفيع، وكأنها ألواحٌ تعود إلى زمن التنزيل.

مع بدايات عملي الصحفي خلال السنوات الأولى من أعوام التسعينيات، زرت مجموعة من هذه المساجد، وكنت أسجل في دفتر الملاحظات خواطري عنها؛ صحن المسجد، والأسقف الملونة، والمحراب الذي يبدو لوحة فنية، والسلَّم الذي يصل بين جدارين، ينتهي بقبَّة تُعرف باسم «البُومَة»، كل هذه التفاصيل أسردها في سياق وصفي، يتناسب مع جمال اللوحة الجصية السَّاطعة في المحراب.

كنت على معرفة ببعض منها، ففي «حارة البلاد» بولاية منح، أربعة مساجد ذات محاريب جصيَّة أنيقة، ثلاثة منها داخل أسوار الحارة القديمة، والرابع محراب «مسجد الجامع»، ومثلها يوجد في ولايات أخرى؛ نزوى وأدم وبهلا وإزكي وسمائل ونخل والرستاق وغيرها، وبحسب النقوش التي عليها، فإن تاريخها يعود إلى القرن العاشر الهجري وما بعد ذلك، غير أنَّ أقدم زخرفة محرابية تم توثيقها، هي محراب «جامع سعال» القديم في نزوى، التي تعود إلى عام 650هـ/ 1252م، وهي برأيي أدق وأجمل زخرفة محرابية، وتحفة تستحق أن تخصَّص لها دراسة، تتناول جمالياتها وخصائصها الفنية.

ومع أن زخرفة محراب «جامع سعال» تعود إلى منتصف القرن السابع الهجري، إلا أن ممارسة هذا الفن انقطعت بعد ذلك قرنين ونصف القرن من الزمان، حتى ظهر من جديد في منح مطلع القرن العاشر الهجري، على يدي النقَّاشَيْن الرائِدَيْن: عبدالله بن قاسم الهميمي، ومشمل بن عمر المِنَحِي، ولا نعرف هل فعلا توقفت مهنة زخرفة محاريب الجوامع والمساجد قبلهما أم أنها لم تتوقف، لأنه لم يصلنا منها شيئا، ربما بسبب هدم كثير منها وتصدُّعِها، مثال على ذلك: «جامع سَمَد الكبير» في نزوى، الذي هدم بالكامل في ثلاثينيات القرن العِشرين، فضاع تاريخ معماري مهم جدا، لأن بناء هذا الجامع يعود إلى القرون الإسلامية الأولى كما نقرأ في كتب التاريخ، وهو ذو محراب مزخرف، وكان يتألف من دورين، ومن بين الأعمدة التي كانت تملأ صرحه الداخلي، لم يتبق منها إلا عمود مائل، تحدِّث الزائر عما حدث للجامع، وقد زرت موقعه، ورأيت قِطَع الجص، وما تبقى من زخارف المحراب، تتناثر في تراب المكان.

وجامع نزوى القديم، المعروف في التاريخ العُماني بـ«جامع العقر»، نسبة إلى حارة العقر المجاورة له، فقد هدم عام 1975م، كان التفكير هو تعمير مدينة نزوى ببناء جامع حديث، فيما كان الجامع القديم أشبه بشيْخٍ هَرِمٍ يلفظ أنفاسه الأخيرة.

وبهدم هذين الجامعين، فقدت نزوى جامعين مُهمَّين، وبقي «جامع سعال» من ذلك الزمن البعيد، فهل تعود زخرفة محرابي جامع سمد والعقر المهدومين إلى نفس فترة زخرفة جامع سعال: 650 هجرية؟، هذا ما لا يمكن الإجابة عليه، إذ للأسف الشديد لم تظهر لجامع العقر صورة من صرحه الداخلي، ولا صورة للمحراب، وعسى أن تجود الأيام بصورة لذلك.

مع بزوغ فجر القرن العاشر الهجري، ظهر النقاش عبدالله بن قاسم الهميمي، بأول زخرفة محرابية لمحراب «مسجد العالي» عام: 909هـ، الواقع داخل «حارة البلاد» بولاية منح، هذا النقاش الرائد قام بزخرفة محراب مسجد العالي بدقة متناهية، لم يفسد جمالها سوى الترميم، فقد قام المرممون بكشط اللون الخارجي للمحراب، فظهر أشبه بوجهِ عَجُوزٍ جَرِبٍ.

وزخرف الهميمي محراب «مسجد العين» عام: 911هـ، ثم محراب «مسجد الشراة» عام: 922هـ، ثم محراب «جامع بهلا» عام: 917هـ، وأخيرا محراب «مسجد الشَّرجة» 924هـ، الواقع في أطراف مدينة نزوى من جهة الشرق.

خمسة محاريب بقيت من أثار النقاش عبدالله بن قاسم الهميمي، أنجزها خلال خمسة عشر عاما، فهل هناك محاريب أخرى؟ لربما أنجز غيرها، إذ لا يعقل أن ينحصر عمله خلال 15 عاما فقط ثم يتوقف، إلا إن كان الموت قد عاجله، أو أن محاريبه قضى عليها تتالي الجديدان، ولم تصمد إلى هذا الزمان.

أما النقاش مشمل بن عمر بن محمد، فرغم أنه من منح، لم يظهر له محراب فيها، ولا نعلم سبب ذلك، لربما تكون هناك محاريب أخرى قام بزخرفتها في حارات «معمد» و«الفيقين» و«المعرى»، المجاورة لحارة البلاد، لربما تكون هناك محاريب قام مشمل بزخرفتها، فلم يبقها الزمان، بسبب تصدع جدرانها، كمسجد «حارة معمد»، وكان محرابه مزخرفا بالجص، وقد حدثني بعض الأهالي، أنهم أدركوا الزخرفة الجصيَّة التي على محرابه، دون أن ندري من قام بزخرفتها، وفي أي عام أنجزت، أما النقاش مشمل فبقيت له زخرفتان متجاورتان لمسجدي «الغَريض» و«المُكبَّر» بولاية نخل، أنجز زخرفتهما في عام 923هـ.

ومما يؤسف له أنه تم هدم مسجد «المُكبَّر» مع محرابه، وصمم محراب جديد على شاكلة القديم، ومحرابه الحالي صورة من المحراب القديم، كما هدم مسجد «الغَريض»، وبقي جدار المحراب، حاملا الزخرفة الحقيقية الوحيدة المتبقية للنقاش الرائد مشمل.

ثم تتالت المحاريب المزخرفة، بظهور أجيال جديدة تنتمي إلى أسر الرُّواد، أشهرها الأسرة المشملية، بظهور ابنه طالب بن مشمل، الذي زخرف محاريب أربعة مساجد، وهي: محراب مسجد «الصَّاروج» بسمائل، بين عامي: 970 أو 990هـ، ما يزال على حالته الأولى، ومحراب مسجد حارة «العُوينة» بوادي بني خالد عام: 970هـ، نقل المحراب إلى «المتحف الوطني» بمسقط عام 2005م، وله أيضا محراب مسجد «المزارعة» في سمائل/ 974هـ، ومحراب «جامع نخل»/ 994هـ، لكنه هُدِمَ في عام 1986م، بعد مرور أربعة قرون على تنقيشه الأول، وشيد في مكانه جامع اسمنتي، فضاعت زخرفة النقاش طالب بن مشمل إلى الأبد، ولم يبق منها إلا صورة ضوئية، وثقها باولو كوستا في كتابه: مساجد عمان وأضرحتها التاريخية، ومن بعده بلديسيرا في كتابه: الكتابات في المساجد العُمانية القديمة.

وهناك محراب آخر، لمسجد «القصر» بقرية «منال» في سمائل، كان المسافرون يقصرون فيه الصلاة، أنجزت زخرفته الجصية في عام 974هـ، (العام الذي قام فيه طالب بن مشمل بزخرفة محراب مسجد «المزارعة» بسمائل)، ومن المرجَّح أن يكون محراب «القَصْر» من صنع طالب بن مشمل أيضا، بسبب التشابه الكبير حد التطابق بين محرابه ومحراب مسجدي «المزارعة» و«الصَّاروج».

من جانب آخر فإن أغلب المحاريب المزخرفة، ظهرت في القرن العاشر الهجري، لقد كان قرنا فنيا بامتياز، سبب ذلك يعود إلى الرَّخاء الاقتصادي، الذي عاشته المدن العمانية في ظل حكم الامام محمد بن إسماعيل الحاضري (906- 942هـ)، وابنه بركات بن محمد الحاضري (942 - 964هـ).

ومما يؤسف له فإن هذا الإعمار والفن الباذخ في مساجد منح ونزوى وسمائل وغيرها، يقابله دمار في جوامع ومساجد المدن البحرية، فقد هدمت في نفس الفترة جوامع قلهات وقريات ومسقط، أثناء حملة المحتل البرتغالي «البوكيرك»، هاجم مدن الساحل العماني في مطلع القرن السادس عشر الميلادي: 914هـ/ 1508م، ودكَّ جوامعها ومساجدها، ولم يبق منها ولم يذر.

بقي فن زخرفة المحاريب تتناقله الأجيال، مدرسة بعد أخرى، حتى انتهى بزخرفة مسجد «الأغبري» بسمائل عام: 1245هـ/ 1829م، وعنده ينتهي فن تجصيص المحاريب في المساجد العمانية، بعد أن امتد زمنه ستة قرون، ولم يبق من تلك الإبداعات سوى 25 محرابا، مع اختلاف في جماليَّاتها الفنية.